آيات عرابي تكتب | أدوات التغيير

 

يقول الشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل : ما من ثورة الا وحسمتها في النهاية قوة ما.

وهذه العبارة نابعة من قراءة عميقة للتاريخ ودراسة جادة للعلوم السياسية وآليات التغيير المختلفة.

فالثورة والانقلاب وجهان لعملة واحدة

ففي انقلاب يوليو 1952 الذي دبرته المخابرات الأمريكية, تم تحديد مجموعة من الأهداف للقوة الصغيرة التي تحركت ضد نظام الملك فاروق (حوالي ثلاثمائة ضابط فقط ويصل المجموع مع الجنود إلى ما لا يزيد عن الف شخص)

فتم تحييد قيادة الجيش والاستيلاء على الاذاعة

وقد استفادت المخابرات الامريكية مما يمكن أن نسميه لعباً غير نظيف

فالمخابرات الأمريكية لم تدبر انقلاباً محكماً تواجه فيه خصما بكامل طاقته فانتصرت عليه, بل انتصرت على خصم مخترق من جميع الجوانب لتمكن لمجموعة الضباط التابعين لها.

إذ كانت المخابرات الأمريكية تسيطر على مراكز صناعة القرار داخل مؤسسات الملك فاروق, حتى ان كيرميت روزفلت نفسه (المشرف على المقبور عبد الناصر) كان يعمل من داخل قصر الملك فاروق ويحظى بحفاوته. بالاضافة إلى أن المخابرات الحربية التي كان من المفترض أن تحمي نظام الملك فاروق ضد الانقلابات قدمت على العكس الحماية لمجموعة ضباط السي آي إيه, حيث كانت السي آي إيه تدرب المخابرات الحربية والجوية التابعتين للملك فاروق منذ زمن.

وتم اختيار موعد يكون الملك فاروق فيه في الاسكندرية بعيداً عن العاصمة مع حكومته

لم يفعل الضباط شيئاً أكثر من السيطرة على مركز قيادة الجيش والاذاعة واتصالات الجيش وبهذا استولوا على مركز القوة المسلحة وسيطروا على اتصالاته وعلى مركز مخاطبة الجماهير وتركوا الحكومة والملك في الاسكندرية بدون أي مراكز صناعة قرار تُذكر

أي أن المخابرات الأمريكية جردت الملك فاروق من مراكز صناعة القرار, فصارت الحكومة بوزراءها والملك بحاشيته مجرد مجموعة من الأفراد العزل المجردين من أي أدوات صناعة قرار ومن أي قوة, فسقط النظام بالكامل في يد عملاءها الضباط وعلى رأسهم المقبور عبد الناصر.

وهو أمر اشبه بالعملية الجراحية أو فلنقل نقل قلب للنظام, والسيطرة على مراكز القوة فيه ونقلها من اليد البريطانية إلى اليد الامريكية. وهو بالمناسبة نفس النموذج الذي جرى تطبيقه في الثورة الروسية قبلها بـ 35 عاماً.

ولم يُحسب حساب الشعب في هذه المعادلة (ومن الواضح أن هذا تم بعد دراسة موسعة) وما جرى فقط هو مخاطبة الشعب بخطاب محبب عن الفساد وغيره وتبشيره بسقوط النظام.

في مذكراته يروي مايلز كوبلاند حوارا دار بينه وبين المقبور عبد الناصر, يقول فيه المقبور أنه ليس مقتنعاً بأن الشعب قادر على التغيير كما يعتقد الإخوان والشيوعيون.

وهو يروي رؤية المخابرات الامريكية لتفاصيل وآليات التغيير في مصر وتطبيقها على أرض الواقع على لسان المقبور عبد الناصر وبغض النظر عن أن هذا الرأي لا يمكن أن ينسب لعبد الناصر, فإن هذا الرأي هو ترجمة سياسية لرؤية المخابرات الأمريكية والتي تستند على دراسة سياسية وواقعية للظروف وقتها وتقوم على اعتبارات عملية تتمحور حول نقطة عدم توافر أدوات التغيير في يد الشعب بالاضافة بطبيعة الحال إلى الرغبة في عدم توفير أدوات التغيير للشعب وعدم تبصيره بها.

(جرى قبلها تدبير حريق القاهرة ليتم تجهيز الشعب نفسياً لتقبل انهيار هذا النظام وهو حريق تشير كل الدلائل العقلانية الى براءة الاحتلال البريطاني منه على عكس ما يقوله بعض الكتاب الذين تناولوا الموضوع)

وهكذا انتقلت الثمرة (مصر) من يد نظام تحت سيطرة بريطانيا إلى يد ضباط السي آي إيه وباقل استخدام ممكن للقوة.

من هذا المثال تتكشف خطورة تسمية العمل الاحتجاجي الذي يقوم به مناهضو الانقلاب من بعد الانقلاب وحتى الآن ,,, بالثورة !!

فترقية العمل الاحتجاجي (الذي يقتصر على الهتاف والتظاهر) إعلامياً إلى مرتبة الثورة دون ان يمتلك هذا العمل الاحتجاجي أدوات التغيير الحقيقية هو ضرب لمعنويات المعسكر الرافض للانقلاب, فمن يديرون الحراك (ومن حيث لا يعلمون) يوجهون ضربات معنوية يومية للشعب بتصوير الثورة (كما يسمونها) غير قادرة على احراز انتصار على الانقلاب بمعنى آخر الضربة المعنوية واحباط الأمل يأتي من سوء ادارة الحراك وتصوير الشعب بمظهر العاجز عن اقتناص حقه من عصابات الانقلاب العسكري.

لقد كان الشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل ابعد نظراً واعمق دراسة ووعياً وفطنة بأدق تفاصيل التغيير وكيفيته من كل من يتحدثون باسم الثورة.

ولذلك فلا عجب أن حرص الانقلاب على أسره بدون تهمة.

المثير للدهشة هو أنه لم تجر حتى الآن دراسة سياسية لآليات التغيير يشترك فيها متخصصون في العلوم السياسية ودارسون للثورات والانقلابات لتصحيح المسار الخاطيء الذي ينتهجه الحراك من بداية الانقلاب وحتى الآن.

وبدون القيام بهذه الدراسة لا يمكن التحرك إلى الأمام خطوة واحدة وستظل هناك دائماً الرغبة في التغيير دون امتلاك أدوات التغيير الحقيقية التي تحقق تطلعات الجميع في مصر.

كما لا يجب أن يُفهم مقالي هذا على أنه دعوة لفرض التغيير بشكل بعينه أو على أنه استبعاد لقدرة الجموع الشعبية على إحداث تغيير بل هو دعوة للدراسة العلمية التي تقوم على أسس سياسية ناضجة ولا تُترك لأهواء البعض.

المصادر

كورتزيو مالابارت : الانقلاب وتكنيك الثورة

مايلز كوبلاند : اللاعب واللعب مذكرات شخصية

أحمد حمروش : ثورة يوليو 1952 (يقصد الانقلاب العسكري في يوليو 52)

د. محمد أنيس : حريق القاهرة في 26 يناير 1952 على ضوء وثائق تُنشر لأول مرة

صلاح الشاهد ذكرياتي في عهدين

بالاضافة إلى مصادر أخرى