الأنظمة الثورية ومشاكل السلطة

 

كتبه جيمس إيكلبرجر ضابط السي آي إيه
التقرير قُدم لعبد الناصر وزكريا محيي الدين سنة 1953 ويمثل الأساس الذي تعمل وفقه مؤسسات العسكر ويبين دور كل منها وهي ما يسميها مايلز كوبلاند (القاعدة القمعية Repressive Base )

والتقرير جاء كملحق في كتاب لعبة الأمم الشهير لمايلز كوبلاند ويطلق عليه, المؤرخ الأمريكي هيو ويلفورد في كتابه (لعبة أمريكا الكبرى – مستعربو السي آي إيه السريون وتشكيل الشرق الأوسط الحديث AMERICA”S GREAT GAME The CIA”S SECRET ARABISTS and the SHAPING of the MODERN MIDDLE EAST) اسم (وسيلة تحصين الانقلاب Coup – Proofing )

ويقول في صفحة 130 : فإذا كان إيكلبرجر هو من وفَّرَ الأساس التنظيري لتحصين انقلاب السي آي إيه المصري, فإن مايلز كوبلاند قد وفر الممارسة العملية.

بينما تعامل أعضاء آخرون من شركة بوز ألن اند هاميلتون في القاهرة مع مسائل (بطاقات الهوية) والمشاكل الداخلية الأخرى لوزارة الداخلية المصري, وقد انغمس كوبلاند في رسم المخططات التنظيمية ووضع الخطوط العامة للدورات التدريبية الجديدة لكلية الشرطة المحلية. ولمساعدته في هذه المهمة, استقدم عميلين سابقين للمباحث الفيدرالية وضابط شرطة من نيو يورك كان يدير الجوانب الأمنية للشخصيات الهامة التي تزور منهاتن.

 

التقرير
ان جوهر الحكم هو القوة . فالحكم ليس مجرد اقتراح اجراءات عامة أو اصدار أحكام قضائيه ولكنه (( اضطلاع )) بهذه الاجراءات و (( تنفيذ )) لتلك الاحكام . ولهذا كانت المحافظة علي السلطة هدفا في حد ذاته لا يختلف في هذا نظام عن نظام مهما تعددت الاسماء وتبدلت الصور . وأما النجاح في تحقيق ذلك فيبقي رهينا بانتقاء أكثر الوسائل ملاءمة وأضمنها نتيجة .
ففي الانظمه الدستورية تلعب التقاليد و (( القوانين الاساسية )) دورا هاما في فرض القيود علي الوسائل المتبعة للمحافظة علي السلطة . فالحكومة في النظام الدستوري لا تملك أن تقوم بالقاء القبض علي زعماء المعارضة لمجرد أسباب سياسية . ولكن الأنظمه السائدة ليس كلها من هذا القبيل . فهناك أنظمة لا تخضع في تصرفاتها لقيود واضحة المعالم محددة المعاني . بل ولا تجد حرجا في اتباع كل المسالك التي تضمن لها السلطة وتؤكد لها البقاء . ويشتهر هذا النوع باسم (( حكومات الثورة )) او (( الأنظمة الثورية )) .
ويعرض التاريخ لمبدأين أساسيين للمحافظة علي السلطة تجميعها في يد الحكومة .
فالمبدأ الاول يقول باعتماد السلطه في بقائها علي اجراءات القمع والارهاب أو باعتمادها علي سياسه البناء والاصلاح . ويتجسد هذان القولان في شكلين متناقضين من أشكال أنظمة الحكم . فالقول الاول يتمثل في نظام ظالم وحكم مستبد يفرض نفسه علي الشعب عنوة ويرسم للمواطنين ما عليهم أن يسلكوه وينجزوه دون رأي منهم أو مشورة
والقول الثاني فيتمثل في نظام شعبي وحكم مقبول ( دون اشتراط الشكل الديموقراطي له ) يستمد قوته في التنفيذ من رضى الامة به وتأييد المواطنين له .
الا أن القولين السابقين لا يمثلان سوي نوعين من أنواع الحكم التي هي علي طرفي نقيض . بل واننا لا نجد في التاريخ ذكرا لنظام حكم التزم حرفيا بواحد منهما واتخذه سنة له وهدايا , دون شذوذ أو خروج . ولذا فان من أولي المهام التي تواجهها أنظمة الحكم الثورية , هي انتقاء مسلك معتدل لا افراط فيه ولا تفريط . فاختيار أنسب المسالك وأضمن الوسائل مهمة غير يسيرة , وعلي اهداف الثورة وغايتها ان تحدد ذلك وتقرره .
فالثورة التي لا تطمع أن تكون مجرد نظام حكم ديكتاتوري ساذج , والتي تطمح , في الوقت نفسه , أن تكون أكثر من مجرد دسائس ومؤامرات تحاك في ردهات القصور ودهاليزها , يتوجب عليها أن تحدد اهدافها علي أساس من النقطتين الرئيسيتين التاليتين :
فمن واجبها أن تجد الحلول لكل المشكلات السياسية والمعضلات الاجتماعية الملحة , التي اقتضت قيام الثورة نفسها , وجعلت نجاحها ممكنا . وبهذه الطريقة , دون غيرها , تتمكن الثورة من ازالة اثار نظام الحكم الحكم السابق , الذي أخفق في تشخيص الداء ووصف الدواء .
ومن واجبها أن تكون قادرة علي تطوير نظام دستوري جديد يخلد منجزاتها , ويحافظ علي مكتسباتها , دون خوف من ردة , أو خشية من عودة الي سيئات الماضي واثامه .
فعندما تتوفر هذه الغايات ضمن الاهداف الاصلية للثورة , فان النظام الثوري لن يجد نفسه مضطرا الي الاعتماد كليه علي وسائل القمع والارهاب لبقاء حكمه اذا ما تبني وسائل الاصلاح وسياسية البناء , ما استطاع الي ذلك سبيلا . فالقمع – بكل ما يعني من مخابرات ومباحث وأمن عام – لا يمكنه البقاء طويلا , وان كان أحيانا ضروريا . ويجب أن تحل الاصلاحات محله تدريجيا وأن تطرده أعمال البناء أمامها نهائيا , دون رجة أو عودة .
والمبدأ الثاني الذي يذكره التاريخ لنا ضمن وسائل المحافظه علي السلطة وبقائها , هو أن كافه اجراءات الحكومة ومنجزاتها تؤثر – عاجلا أم اجلا – علي (( قاعدة الحكم )) التي تتخذها أساسا لها ومرتكزا .

فمن ناحية أولي , فان عبارة (( قاعده الحكم )) تعني مدي قدرة الحكومة علي الصمود في وجة المعارضة وكبحها لجماحها , ومن ناحية أخري , فانها تعني مدي رضي الشعب بالحكومة وتأييده لها .

وتتجسد قدرة الحكومة في الوقوف ضد المعارضة في قاعدة القمع والارهاب التابعة لها . في حين يتمثل رضي الشعب بالحكومة وتأييده لها في قدرتها علي ممارسة حكمها عليه دون اللجوء الي وسائل القمع والارهاب .

وبعبارة أخري , فان قبول الشعب بالحكومة يتجسد في قاعدة الاصلاح والبناء التابعة لها .

وهكذا يتضح الان ما ذكرناه سابقا من أن كافة اجراءات الحكومة ومنجزاتها تؤثر – عاجلا ام اجلا – علي (( قاعدة حكمها )) . فسياسة الحكومة وأعمالها الادارية تقرر- مباشرة أو غير مباشرة – مدي حاجتها الي استعمال وسائل الشده والارهاب وتحدد كل زيادة فيها أو نقصان .
ان الاجراءات الحكومية التي لها تأثير مباشر علي (( قاعدة الحكم )) تهدف أساسا الي المحافظة علي السلطة وعلي ضمان استمرارها .

وكمثال علي الاجراءات المباشرة التي تخضع لقاعدة القمع والارهاب فاننا نذكر تلك الاجراءات التي من هدفها زيادة فاعلية الجيش , ورفع درجة ولائه , وضمان اخلاص اجهزة المخابرات والامن العام , وغيرها من الاجهزة الحكومية التي لها صبغة عسكرية . وكذلك تلك الاجراءات التي تنص علي اعتبار بعض أصناف النشاط السياسي غير قانونية وبالتالي يتعرض العاملون فيها الي الاضطهاد والتعذيب . وكمثال علي الاجراءات التي تشجع علي ممارسة بعض أصناف النشاط السياسي , مثل تشكيل المنظمات الشعبية والاحزاب السياسية الموالية للحكومة , ويعتبر من هذا القبيل أيضا اصدار بعض التسهيلات الدستورية مثل قانون الانتخابات الذي يجب أن يمنح بعض الميزات والمنافع للفئات والطبقات الموالية لنظام الحكم القائم والمؤيدة لاهدافه .
ان كل ما يتخذه نظام الحكم القائم من تدابير ذات أهداف بعيدة – مثل تقوية الحالة الاقتصادية عامة – له تأثير غير مباشر علي (( قاعدة حكمه )) . كما لا ينكر مدي تأثيرها علي الوضع السياسي العام في البلاد . فعندما تقوم الحكومة بوضع الصعاب في طريق احدي الفئات المتمتعة بوضع اقتصادي قوي بغية شلها أو تصفيتها , فان هذه الفئة تصبح بحكم الواقع منبوذة , بل وخارج (( قاعدة الحكم )) الموالية للنظام القائم . كما تصبح أيضا مرتعا خصبا لنمو الشعور المعادي له . وبالمقابل فان أي تحسن في الوضع الاقتصادي لاحدي الفئات أو الطبقات نتيجة تدابير حكومية ( سواء تحقق ذلك انيا أو كان علي شكل وعود مأمولة الانجاز ) فان تلك الفئه أو الطبقة تنتقل تلقائيا من صف المعارضة الي صف الموالين (( لقاعدة حكم )) النظام القائم حتي ولو كانت منبوذه سياسيا في العهد السابق ومعاديه له .

ومع أن الغاية الرئيسية من انشاء المشاريع العامة ليست سياسية , ولكنه لا يجوز اغفال ما لها من اثار سياسية هامة , فتكتيلها للفئات الشعبية في المناطق التي تنفذ فيها حول النظام القائم يعتبر مددا حساسا (( لقاعدة حكمة )) ودعما جيدا لوضع حكومته . ولا يقل عن هذا أي اصلاح أو تعديل في نظام فرض الضرائب أو في الانظمة الادارية الاخري . ولا يخلو أن يكون لبعض الاجراءات تأثير مباشر علي (( قاعدة الحكم )) , وفي الوقت نفسه , تأثير غير مباشر ولكنه مضاد للأول . فمثلا , وجود أعداد كبيرة من أفراد الجيش والامن العام , اعضاء في تنظيم سياسي غير قانوني ’ له تأثير مضاد وغير مباشر , علي متانة ولاء أجهزة القمع والارهاب للنظام القائم .
وعلي وجه التقريب , فان التدابير الادارية والاجراءات الحكومية تتمخض عن نتائج سياسية مهما كانت غايتها الاساسية . ولذا فان عبقرية زعماء الثورة وقادتها تنعكس دائما في الدقة المتوخاة عند محاولتهم تقرير سياسية الحكومه حسب حاجات الشعب الذي يبقي دائما وأبدا مصدر الدعم الرئيسي للثورة . ومع أن زعماء الثوة لا يميلون الي اتباع سياسة غير سياسة البناء والاصلاح . فانهم لا يتأخرون لحظة واحدة عن اللجوء الي اقصي وسائل البطش والارهاب حال احساسهم بضرورة ذلك .
فاذا استوعبنا ما سبق ذكره , وادركنا مقاصد معانيه ومراميها , وجدنا أن الاحتفاظ بالسلطة وضمان بقائها يتطلب الالتزام بقاعدتين أساسيتين هما :
علي حكومة الثورة أن لا تضع سياسة ما , أو تزمع علي اتخاذ اجراء ما , أن تحدد تأثير ذلك المباشر وغير المباشر علي (( قاعدة حكمها )) .
وعلي حكومة الثورة أن تعطي الاولوية لانشاء (( قاعدة حكم متينة لدعم سلطتها , حتي لا تجد نفسها مضطرة , تحت ضغت الجماهير , لاتباع سياسة الانجراف والمساومات .
ومن الصعب العثور علي أية نظرية محددة المعالم , مضمونة النتائج , لتساعد قادة الحكومات الثورية في معرفة الاجراءات والاعمال التي لها تأثيرات سياسية مطلوبة , أو لتساعدهم في تكوين (( قاعدة حكم )) تلائم النظام القائم وتحافظ عليه .

ان نجاح الحكم الثوري في خطواته وامتلاكه (( قاعده الحكم )) متينة , يرتبط ارتباطا وثيقا بالوضع السائد في داخل البلاد , كما يعتمد علي بعد نظر القادة أنفسهم , واتساع أفقهم , وخصوبة مخيلتهم . وفوق كل هذا وذاك , فان سر نجاحهم في هذا كله , يكمن في قدرتهم علي الاخذ بزمام المبادأة . وفي مواجهة المواقف بجرأة وشجاعة . ومهما كان فالمرء لا يعدم أن يرسم بعض الخطوط العريضة , العامة , ومنها :
ان اللجوء لاساليب القمع أمر لا بد منه , وخاصة في المرحلة الاولي للثورة .
يجب أن لا يكون من ضمن أهداف النظام الثوري مجرد الحصول علي التأييد الشعبي . فالتأييد الشعبي أمر مؤقت بل وزائل . ودخول النظام القائم في ميدان منافسة كهذا , مع بعض الفئات ( أو حتي الافراد ) الذين لا يعدمون فرص دخوله , سيجعل الثورة في خطر أن تجد نفسها تابعة غير متبوعة .

ان الشهوة الجارفة في نفس قادة الثورة لمجرد الحصول علي تأييد الجماهير وضمان هياجها لصالحهم , تعتبر بادرة خطيرة , بل وقاتلة . فهي لا ترمز الا الي الضعف والانهيار في (( قاعدة الحكم )) التي يعتمد عليها النظام القائم .
ان نظام الحكم الذي يود كسب تأييد الشعب له , بناء علي سياسته في الاصلاح والبناء , يجب أن يعتمد علي دقة تخطيط سياسة الحكومة وعلي حسن تطويرها ( وهذا عكس مجرد الحصول علي الشهرة الشعبية ) , مستخدمة في ذلك كل وسائلها وأجهزتها , مباشرة وبصراحة , لاثارة عواطف الفئات والطبقات الكبري من الشعب لصالحها , والظهور بمظهر الحريص علي مصالحها والمحافظة علي حقوقها .
ان لاجراءات السلطة تأثيرات غير مباشرة علي (( قاعدة الحكم )) لا تقل أهمية عن تأثيراتها المباشرة عليها .
ان للتنظيمات الشعبية , غير التابعة مباشرة لنظام الحكم , أهمية خاصة في انشاء وتكوين (( قاعدة الحكم )) المؤيدة والعاملة في سياسة الاصلاح والبناء أثناء عهد الثورة القائم , وأثناء مرحلة الانتقال الي الشكل الدستوري للدولة .
ان الشكل الدستوري الجديد للنظام يجب أن يعتمد مباشرة علي قوة سياسة الثورة في الاصلاح والبناء .
ان قوة أجهزة المخابرات والمباحث , وحسن تنظيمها , وابتعادها عن الارتشاء والعبث , عوامل جد . أساسية لتنفيذ تدابير قمع فعاله , وللقيام بتحليل دقيق للقواعد الجماهيرية المؤيدة لنظام الحكم .

 

العهد الثوري
بعد كل هذا الاستعراض للخطوط العامة , أصبحنا الان في وضع ملائم لبدء تفحص المشاكل التي تواجه النظام الثوري في احتفاظه بالسلطة واستمراره بالحكم كما هي علي الطبيعة حقيقة . ولا مانع من القاء نظرة عميقة علي المعطيات التي يحاول النظام الثوري الاعتماد عليها في تصرفاته المباشرة , أو غير المباشرة , ولقد سبق أن أبرزنا أهمية هدفين أساسيين لكل ثورة تطمح أن لا تجعل من نفسها مجرد حكم ديكتاتوري ساذج , وهما :
عليها أن تقوم بايجاد الحلول للمعضلات السياسية والاجتماعية الملحة التي قضت بوقوع الثورة .
وعليها أن تطور وضعا دستوريا جديدا ليحافظ علي منجزات الثورة ومكتسباتها أو ليخلدها .
ومع ان هذين الهدفين يقتضيان وجود مرحلتين للثورة , فمن المستحيل تحديد نهاية الاولي وبداية الثانيه . وبوضوح , أكثر فالتمييز بين هاتـــــين المرحلتين لا يتضح الا من خلال التباين في طريقة اظهارهما والتشديد عليهما . فنهاية العهد الثوري تتداخل بصورة غير ملحوظة مع بداية عهد النظام الدستوري الجديد . والحقيقة انه لا فائدة من تحديدهما بوضوح الا لهدف المناقشة وتحليل الأحداث . وسنقترب من هذا ( في سياق تقريرنا ) دون أن ننسي أن مرحلة وضع الدستور الفعلي تبدأ من أول مراحل سياسية الاصلاح والبناء التي تقوم بها الثورة , وان استمرار بعض اجراءات القمع والارهاب , لفترة طويلة بعد تدشين العهد الدستوري الجديد , أمر لا بد منه . وسنرمز الي المرحلة الاولي للثورة باسم (( العهد الثوري )) , وللمرحلة الثانية باسم (( عهد ما قبل الدستوري )) .
ولا بد للثورة من أن تقوم بالغاء بعض أو كل المؤسسات السياسية المنتشرة في البلاد التي ثبت عدم قدرتها علي حل المشاكل السياسية والاجتماعية الملحة التي اقتضت قيام الثورة . وهذا هو أنسب الاوقات وأصلحها لاحداث تطورات سريعة , تفقد بموجبها بعض الفئات والطبقات قوتها كمؤسسات سياسية , وتوضع في موقف حرج تضطر معه الي الدفاع عن نفسها و ذلك بسبب التيار الجارف لطبيعة الانقلاب الجديد التي تقف وراءه القوات المسلحة . كما أن النجاح السريع لنظام الحكم , في تكتيل الجماهير الغوغائية المؤيدة له تحت شعارات الاصلاح والبناء , له أكبر الأثر في تدعيم الخطوة السابقة . ثم لا تلبث مرحلة (( التدعيم والتعزيز الثوري )) أن يأتي دورها بعد تلك الطوات السابقة وبعد أن يكون الحكم الثوري قد اتخذ شكلا أوليا يؤهله لان يخوض هذه المرحلة يكل ما يكتنفها من صعاب فعلية في نواحي الادراة وتخطيط السياسه .
وفي أثناء هذه المرحلة , تبرز الاخطار المضادة للثورة في أقوي مظاهرها , وتنتج من أحد المصادر الثلاثة التالية :
من أولئك الذين كانت لهم مصالح ضخمة في نظام الحكم السابق , أو من مؤيديه , أو ممن تطغي عليهم عاطفة جامحة في تأييده .
من اولئك السياسيين الانتهازيين الذين يحاولون الاستفادة باستمرار من الاتجاه الطبيعي نحو الاضطراب وعدم الاستقرار الكامن في الوضع الثوري .
من اولئك الساسة الهدامين الذين يحاولون سرقة الثورة وتسخيرها لاهدافهم وماربهم , كالشيوعيين مثلا .
ومن هذه المصادر الثلاثة – مجتمعة أو منفصلة – تبرز الاخطار الثلاثة التالية :
انقلاب عسكري يقع نتيجة ارتباطات بين عناصر في الجيش وقوي الامن الداخلي , وبين بعض الزمر والجماعات الموجودة داخل حكومة الثورة نفسها .
انقلاب عسكري مضاد يحدث نتيجة ارتباطات بين بعض العناصر من الجيش وقوي الامن الداخلي , وبين القوي السياسية في الخارج وخاصة تلك التي تملك القدرة علي اثارة هياج ومظاهرات شعبية .
تسلل عناصر مناوئه لاهداف حكومة الثورة , ونجاحها في الوصول الي احدي النتائج التالية :
1 – تحريف كامل لبرنامج حكومة الثورة .
2- اتلاف كامل لبرنامج حكومة الثورة .
3- اضعاف القدرة الحكم علي الاحتفاظ بسلطتة وبالتالي التحضير للاطاحة به نهائيا .
وبالضرورة , فليس هناك من وسيلة لمجابهة مثل هذه الاخطار , سوي استخدام سلطات الحكومة – علنا ودون تحفظ او تقصير – لقمعها أو الحيلولة دون وقوعها واستفحال شرورها .

ولقد نوهنا سابقا , أن اللجوء الي اجراءات القمع والارهاب أمر لابد منه في المرحلة الاولي للثوره , علي ان تحل سياسة الاصلاح والبناء محلها فيما بعد كأساس لاستمرار سلطه النظام القائم . وهذا هو التعاقب الصحيح لمراحل تقدم الثورة وتطورها . ومن العجب ان يتبع عدد غير قليل من الثورات عكس هذا الاتجاه . فمن الخطأ ان تعتمد الثورة , في مرحلتها الاولي بافراط علي سياسة الاصلاح والبناء , ثم تلجأ الي اجراءات القمع والارهاب كعمل حاسم لسحق اعدائها .
أن هذا السلوك , بعينه , هو ذاك المرض الخبيث الذي تعاني منه الثورات , وهو الكفيل بالقضاء عليها قضاء مبرما .
والتحليل الموضوع لما سبق ذكره هو كما يلي :
يضطر قائد الثوره الي الانتهاج سياسه الانجراف والمساومات شيئا فشيئا , لان الثورة لا تتمكن من احكام قبضتها علي اجهزة الدولة في بدايه عهدها , ولانها لا تملك منح ثقتها لاجهزه القمع والارهاب لشكها في كفائه تلك الاجهزة ونفوذها . وستحاول قيادة الثورة أن تحافظ علي السلطة عن طريق كسب الشهرة الشعبية , وإثاره أزمة نفسيه لا تنتهي حيال طريقه توجيه شئون الدوله ومصالحها . وهكذا تكون الثوره قد وضعت اهدافها جانبا , أو تركتها تحت رحمه الظروف والمناسبات نتيجة جهودها الخاطئه في المحافظه علي السلطه وفي ضمان بقائها ولكن سرعان ما تفقد سياسه الانجراف والمساومات فرصها كلما اتضح افلاس الثوره وبنا للعيان فشلها .

وهنا تضطر حكومه الثورة الي اللجوء الي وسائل القمع والارهاب , كما تضطر الي تشكل الاجهزه المنفذه له وتطويرها بسرعه وطيش . ولو افترضنا ان التطوير السريع لاجهزه القمع والارهاب كان ناجحا , اضطرت الثورة عندها للاعتماد علي القمع والبطش بافراط . ولكن يحدث ذلك في الوقت الذي يجب علي الثورة أن تكون منصرفة فيه نحو منح البلاد عهدا دستوريا جديدا . وهكذا تكون الثورة قد تفسخت حقيقة , وانقلبت الي مجرد نظام ديكتاتوري وحكم مستبد . اما في حال عدم نجاح قيادة الثورة في تطوير أجهزة للقمع بالسرعة الضرورية وبالكفاءة اللازمة ( وهذا ما يحصل عادة بسبب التأخير ) , فان حكومة الثورة ستجد نفسها مضطرة الي الانتقال انقلابيا الي نظام دستوري جديد , دون أن تكون قد استكملت بعض أو كل مقوماته , أو حققت بعض أو كل اهدافه . وهذا هو أهون الشرين وأخف الضررين . أما اذا جرت الرياح عكس ما تشتهيه الثورة وتتمناها , فان النظام الثوري باكمله سيقع ضحية ثورة مضادة لا تبقي ولا تذر .
ويتضح من هذا كله , أن سياسة الانجراف والمساومات هي حليفة الثورة المضادة , كما أنها جرثومة فتاكة في داخل جسم الثورة نفسها . فعندما يتذكر المواطنون أن سياسة حكومة الثورة لا تختلف عن سياسة حكومة العهد البائد التي كانت السبب المباشر لقيام الثورة ضده والاطاحة به – هذا ان لم تكن نسخة مماثلة له – فانه يصبح مؤكدا أن سياسة حكومة الثورة الحالية ستشكل دائما مشجعا لكل أولئك الذين يتطلعون الي نسف الثورة وسحقها دون رحمة أو هوادة .
ان قاعدة القمع والارهاب التي يجب علي حكومة الثورة أن تلجأ اليها عند الضرورة تتألف في هيكلها مما يلي :
الانظمة والقوانين
قوي الامن الداخلي
أجهزة المخابرات والمباحث ذات الكفاءة العالية
وسائل الدعاية
قوة عسكرية بكفاءة عالية أو الجيش
ان الاستعانة بالانظمة والقوانين لتحقيق الاستقرار السياسي خلال الفترة الاولي من حكم الثورة أمر ضروري لا بد منه . وليس الهدف من ذلك تحريم النشاطات السياسية المنظمة التي لا ترغب السلطة الحاكمة بها فحسب , بل الهدف منها أيضا اضفاء صبغة اللاشرعية علي كل النشاطات الهدامة والداعية الي الشغب والفوضي . وأفضل الاجراءات في هذا المضمار , هي مراجعة كافة الانظمة والقوانين القائمة التي لها علاقة بتلك الموضوعات , وتعديل ما يلزم منها حسب الظروف الجديدة , ثم توضيحها وجمعها في مرسوم واحد ( أو مجموعة مراسيم ) وتعميمها وعلي أوسع قدر ممكن .

وهكذا تصبح هذه التشريعات أساسا للمحافظة علي أمن الدولة . كما أنها تقوم بتحديد مهمة الامن الداخلي وأجهزة المباحث ( وزارة الداخلية ) , وتوضح كذلك واجبات المواطنين وحقوقهم . وفي الوقت الذي يجب أن تكون هذه التشريعات واضحة قدر المستطاع , فانها يجب أن تبقي أيضا عامة حتي لا تعيق الحكومة نفسها , وتسلب رجال السلطة حرية التصرف المطلوبة . كما يجب أن لا تظهر هذه التشريعات علي انها لصالح فئة – أو طبقة – وضد أخري , أو انها تعطل بعض الحريات العامة كحرية التعبير والانتقاد وغير ذلك . ولكنها بنفس الوقت يجب أن لا تكون عقبة كأداء في وجه سلطة النظام القائم , أو أن تحول دون اتخاذها الاجراءات اللازمة لحماية نفسها . وعلي هذه التشريعات أن تحقق غايتها المرجوة ألا وهي اعتبار كافة أعمال التامر – كقلب نظام الحكم , أو تأييد الذين يفكرون بهذا والدفاع عنهم , أو ترويج الشائعات الكاذبة , أو بث الذعر بين الناس , أو اشاعة جو الكابة مما يحرض الناس علي أعمال العنف , أو الادلاء بأسرار الدولة الرسمية , أو القيام بأعمال التجسس والتخريب – أعمالا غير قانونية تستحق العقوبة والجزاء .

كما يجب عليها أن تمنح قوي الامن الداخلي الحق في تحريم الاجتماعات العامة والتجمعات التي تبلغ حد الخطر في الشوارع , وتفرض الحثول علي اذن مسبق لاقامتها . ومن المسلم به جدلا , خضوع السلطة القضائية برمتها – دون- استثناء لادارة حكومة الثورة . كما ان كافة الاحكام الصادرة بحق المخالفين لانظمة أمن الدولة , يجب أن لا تكون – بأي حال من الاحوال – مخالفة لرغبة حكومة الثورة وانشراح صدرها .
قوي الامن الداخلي يجب علي قادة حكومة الثورة اعطاء أجهزة قوي الامن الداخلي ( الشرطة والمباحث والامن العام ) الاولوية علي سائر الأجهزة الاخري في الدولة . فقوي الأمن الداخلي تعتبر بمثابة الدرع الحامي لنظام الامن في الدولة وضمان استتباب الامن والنظام في الازمات التي لا تبلغ حدا خطيرا يتطلب معه استدعاء الجيش . ولهذا يتوجب القيام بتفحص وتحري كامل هيئة قوي الامن الداخلي وعملياتها باستمرار حتي يضمن ولاؤها , ويحافظ علي حسن أدائها لمهماتها . وعلي قيادة الثورة منح رئيس قوي الامن ومساعديه ثقتهم التامية , كما عليهم أن يولو تطوير فاعلية تلك الاجهزه في حفظها للامن عنايتهم الشخصية والمباشرة , وهذا يعني بالضرورة اضفاء الصبغة السياسية علي كافة أجهزة قوي الامن الداخلي , لتكون عند الضرورة يدا موالية لحكومة الثورة بصفة شبه عسكرية .
ان من مهمات أجهزة المباحث التابعة لقوي الامن الداخلي ما يلي : تجميع كافة المعلومات الماسة بوضع الامن في الدولة عن طريق انشاء شبكة واسعة للتحريات , واجراء التحقيقات السريعة في قضايا الامن بممارسة الطرق العادية للمراقبة والاستنطاق والتسلل الي المستويات الدنيا لكافة الجماعات المشكوك في ولائها للثورة . كما أن عليها القيام بتطوير جهاز فعال ضد المظاهرات والاضطرابات .
أجهزة المخابرات : –
ان دماغ كافة أجهزة الامن لنظام حكم ثوري ( أو حتي ولاية دولة اخري ) , والمركز الحساس لها , وهو ذاك الجهاز الذي هو علي غاية من السرية , والذي لا يعرف تفاصيل وجوده سوي رئيس النظام الحاكم ومن حوله من زعماء الثورة القياديين . ويطلق علي ذاك الجهاز اسم (( المخابرات )) . وتقع علي عاتق هذا الكيان المتغلغل في كافة ارجاء أجهزة الحكومة ودوائرها ( وحتي خارج أجهزة الحكومة ) مسؤولية تزويد رئيس الدولة بالمعلومات الهامة والضرورية للقيام باجراءات فعالة وقورية ضد الاخطار المضادة للثورة . كما يجب علي هذا الكيان ان يزود رئيس الدولة وكبار رجالها بالمعلومات الكافية لتخطيط سياسة أمن عامة . ومن مهام هذا الكيان أيضــــا معرفة كامل النشاطات المعادية للدولة والضارة بأمنها , سواء القائم منها فعلا او المبتدئ حديثا , وسواء الواقع داخل نطاق الحكومة أو خارجها , وسواء الشامل منها لوزراء الدولة أو لضباطها في القوات المسلحة والامن الداخلي .
ولتحقيق هذه الاهداف وانجاز تلك المهمات لهذا الكيان ان يتمتع بالحرية المطلقة في الاطلاع علي كافة انتاج أجهزة الامن الداخلي وأجهزة والمباحث والمخابرات الاخري ( ويسمي عندئذ هذا الكيان باسم الجهاز الخاص ) . كما يجب أن تكون لدية القدرة علي الاشراف – عن طريق وسائله , المعروفة منها أو السرية – وبصورة خاصة , علي أهم أجهزة الامن الداخلي . وفوق كل هذا وذاك , فان من أخص مهام اجهزة المخابرات عامة امتلاك المعطيات اللازمة والقدرة الكاملة بغية التسلل الي أعلي المراتب والمناصب في كافة النشاطات المشكوك في ولائها للثورة .
الدعاية والاعلام :
من الخطأ اعتبار الدعاية سلاحا أساسيا لضمان أمن الثورة . فالدعاية في حد ذاتها لا تعدو كونها سلاحا مساعدا لاستمرار السلطة وبقاء النظام . كما أن يكون العكس . وهذا هو أقصر الطرق المؤيدة بالثورة الي سياسة الانجراف والمساومات . وعلي حكومة الثورة أن تقوم بشن حملات دعائية مركزة تهدف الي اعطاء تبرير مقنع لاستمرار استخدامها لوسائل القمع الارهاب . كما أن من أهداف تلك الحملات كشف النقاب عن اعداء الثورة وفتح النشاط اليساري .
ويجب أن تستحوذ مسألة الدعاية المضادة – التي تقوم القوي المعارضة للثورة ببثها- علي اهتمام خاص , بسبب ما يمكن أن تثيره من مشاكل , مثل مطالبتها بحرية الصحافة خلال العهد الثوري دون أخذ بعض المشاكل والظروف الاخري بعين الاعتبار . ومهما كان , فعلي حكومة الثورة أن تكون مستعدة لفرض المراقبة علي الصحافة حال احساسها بضرورة ذلك . الا انه يمكن ضبط الصحافة في غالب الاحوال من خلال ممارسة بعض الضغط من قبل الحكومة , بأشكال عديدة , ودون اللجوء الي المراقبة الصريحة . فيكفي مثلا تعيين مستشار لكل هيئة من هيئات تحرير المجلات والصحف , وذلك بقصد ابداء الرأي بكل ما هو معد للنشر كالقصص والاخبار , ولاعطاء النصيحة والتوجيه بخصوص المواد الصحفية التي تعالج القضايا العامة المهمة .

ويمكن اصدار بعض المراسيم – التي يمكن أن توصف بأنها مرتبطة بوضع الامن داخل الدولة – بغية تدعيم سلطة اولئك المستشارين عند الضرورة . كما يمكن تحقيق ذلك عن طريق التهديد بتنفيذ بعذ الانظمة المتعلقة باثارة الشغب وتهديد الامن