رابعة والمياه خلف السد

 

 المياه خلف السد تتراكم، عدة أنابيب مختلفة الأقطار ينزل منها الماء، كل حسب حجمه.

البعض يقف مراقبا الماء المنهمر من تلك الأنابيب خلف السد، يرنو بعينه إلى المياه المتجمعة، أحدهما يقول للآخر في قلق: هذه المياه قد تكتسح جدران السد إن لم نوقفها.

الجميع ينظر بقلق، ومنسوب المياه يعلو ويزيد على نصف مقياس البحير.. أحدهم يهرع إلى كبيرهم، تهتز كلماته، يبدو منها الرعب:

إذا لم نتصرف فسوف يحطم اندفاع المياه جدران السد والأصنام الموضوعة خلفه..

سنغرق جميعا..

أحدهم يهتف: أغلقوا ذلك الأنبوب الصغير.

ينظرون إليه في استهتار.

يجيب دون أن ينتظر أسئلتهم:

إغلاق الأنبوب الصغير سيؤثر على اندفاع المياه من باقي الأنابيب، نحن نعزف على العاطفة، نضرب الرأي العام، المياه في الأنبوب لا قيمة لها، ولن تصنع شيئا، لكنها ستمثل ضربة معنوية عنيفة لمن يقفون خلف باقي الأنابيب، وستعطل اندفاع الماء قليلا.

ينظر بعضهم إليه في استحسان، دون أن يتكلم..

أغلقوا الأنبوب الصغير.. هتف كبيرهم، وسرعان ما انتقلت إشارة إلى الواقف خلف الأنبوب، فأسرع يعلن عن غلق أنبوبه.

فوضى في معسكر الثورة، ما الذي حدث؟

الجميع يتساءلون في حيرة: هل بدأ البعض في القفز من المركب؟ هل هناك خلافات؟ هل هل؟

عشرات الأسئلة تدور في معسكر الثورة، حملها لكبير الواقفين خلف السد أحد رجاله في تقرير قصير، نظر إليه كبيرهم بسرعة، وابتسامة تغزو وجهه.

نظر إلى صاحب الفكرة قائلا: كما توقعت تماما، غلق الأنبوب الصغير أثار لغطا وفوضى، أنت تستحق الترقية.

شرد كبيرهم ببصره وهو يراقب المياه، وقد خفتت، وينصت خلال شروده لهدير الماء وقد استحال خريرا ضعيفا، لا بد أن العصابة ستكافئه.

أفاق من شروده على صوت أحد رجاله يقترب منه ويهمس في أذنه، مشيرا إلى أحد الأنابيب، هذا الأنبوب الذي يصنع الكثير من الضجيج، ولا ينتج من الماء إلا قدر ما ينتجه صنبور صدأ مع الزمن.

وعلى الفور تصدر الإشارة إلى الواقف خلف الأنبوب، ليعلن توقفه عن ضخ المياه.

على مكتبه يجلس كبيرهم ويراقب خريطة الأنابيب وقد انغلق اثنان منها، تم تظليلهما باللون الأسود.

أحدهم يطرق بابه، يناوله تقريرا، نفس اللغط، الجميع بدأوا بالتشاحن.

بدت له كلمات التقرير كلحن موسيقي.

قال لنفسه: الآن تبدأ المرحلة الثالثة، التي قد تستغرق وقتا، المهم أن يشعر الجميع بالإنهاك، المهم أن يتوقف اندفاع المياه.

الآن سنقول لهم إن الأنابيب يجب أن تتراص في اتجاه واحد، ولهدف واحد، سنطلق مصطلحا يبدو أنيقا، يشغلهم بعض الوقت.

على أنابيب المياه أن تصطف حتى تستطيع كسر جدار السد.

حسنا، الأنابيب مصطفة منذ البداية في اتجاه واحد!!

ماذا تقصدون إذن بهذا الاصطفاف؟ هل المقصود أن تضع المزيد من الأنابيب؟

هل المقصود أن تضع أنابيب تضخ سوائل مختلفة غير المياه؟

أسئلة تندلع في معسكر الثورة على الجانب الآخر، والمياه تزداد ركودا خلف السد.

شرد كبيرهم وهو يفكر في المكافأة التي سيحصل عليها من عساكر الانقلاب على أدائه، وتذكر وسط شروده كيف كان يرتجف هلعا بعد مجزرة رابعة، كيف شاهد فيديو للطفل الذي يرفع أذان الظهر وسط الدخان والنار، وطلقات الرصاص تنهمر من حول قامته الضئيلة، وصوته الصغير يتحدى صرير الرصاص الشرير المتطاير ليعلو صوت الأذان على صوت الرصاص.

تذكر مشهد مجموعة من الرجال ينهمر العرق من جباههم، وهم يحملون جثمان طفل في الرابعة عشرة من عمره إلى حيث يجهزونه للدفن، تذكر كل هذه المشاهد واقشعر بدنه.

تصور ما الذي كان من الممكن أن يفعله بهم هؤلاء لو لم يستخدموا معهم تلك الأساليب الخبيثة؟ كيف كان من الممكن التغلب على اندفاعة هؤلاء لولا حرب التعطيل التي قادها هو ورجاله ضدهم؟

عادت القشعريرة لجسده من جديد حين تذكّر أن هناك نواة صلبة لا تنكسر، وأن تلك النواة مصرة على الثأر.

قال لنفسه: ما زالت رابعة ومشاهدها حاضرة في أذهانهم، لم ينسوها بعد، وما زال الخطر قائما، والحرب لم تنته بعد.