بعدما قرأت ما كتبه د. محمد نبيه والذي نشرته احدى الصحف المؤيدة للانقلاب، أن عبد الناصر لم يؤمم قناة السويس وإنما طرد موظفي الشركة، بدأت ابحث في موضوع القناة، كانت قناعتي منذ فترة طويلة أن المشروع نفسه طالما عرضه دليسبس الفرنسي فمن الضروري أن يحمل المشروع بعض الشرور لمصر أو بالأحرى لدولة الخلافة العثمانية وقتها، وبدأت بتقصي الموضوع، بالنسبة لي قبل أن أقرأ، كنت أرى أن مشروع قناة السويس كان اصلاً (بخلاف الأغراض الملاحية التي قيلت لنا في كتب التاريخ واعتبارات التنافس الاستعماري بين فرنسا التي ارادت أن تقطع الطريق على انجلترا وتسلبها مستعمراتها في الهند) كالخنجر في الجسد المصري.
كنت ومازلت أرى أن الفرنسيين اقتطعوا قطعة من ارض مصر وفصلوها عنها بجدار عازل اسمه قناة السويس، فعندما جاء نابليون بونابرت إلى مصر فكر على الفور في اقامة القناة بين البحرين بل وزار مدينة السويس والتي كانت وقتها قرية فقيرة يسكنها الصيادون ومنعه من ذلك خطأ فني حيث انتهت الدراسة الفرنسية إلى أن منسوب البحر الأبيض يزيد بثلاثين مترا عن منسوب البحر الأحمر وبالتالي صرفوا النظر عنها مؤقتاً، ثم اقنع دليسبس (سفير فرنسا لدى مصر)الخديوي محمد سعيد بالمشروع (كان دليسبس الابن صديقاً مقرباً من الخديوي بسبب دور والده ديليسبس الأب في الوساطة لدى السلطان العثماني للإبقاء على أسرة محمد علي في الحكم).
المهم أنه بعد الافتتاح الأسطوري الذي أريقت فيه أنهار الخمر المعتق، أصبحت مصر مدينة لاصحاب الاسهم في شركة قناة السويس البحرية واعلن الخديوي إسماعيل عن رغبته في بيع اسهم مصر لتسديد ديونه، وما ان اشتم البريطانيون الخبر حتى عقد رئيس الوزراء البريطاني اجتماعا عاجلاً لتدبير مبلغ 4 مليون جنيه استرليني لشراء اسهم مصر، وكان البرلمان البريطاني في إجازة وكان على الحكومة أن تتخذ قراراً سريعاً، وما أن وافق الحضور على الشراء، حتى أرسل بنجامين دزرائيلي، رئيس وزراء بريطانيا (اليهودي) مندوباً إلى ناثان روتشيلد (اليهودي)ليدبر المبلغ للحكومة، ووافق بالطبع واصبح لبريطانيا اسهم في شركة قناة السويس ولليهود سيطرة غير مباشرة على الشركة!!
قرار عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس لم يكن تأميماً للقناة كما تظن الأغلبية الكاسحة من المصريين، القرار كان ينصب على الشركة صاحبة امتياز إدارة قناة السويس، وبعد الحرب التي هُزم الجيش في مراحلها الاولى، وسحب عبد الناصر للجيش أمام القوات الصهيونية التي احتلت سيناء، واعلان بن جوريون لضم سيناء، وبعد حرب دارت عدة اشهر في مدن القناة، أصدرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي انذارهما للفرنسيين والبريطانيين بالخروج من القناة، وقد كان.
ومن بعد ذلك بدأت المفاوضات في جنيف وانتهت إلى توقيع اتفاقية مع اصحاب الاسهم سنة 1958 تنص على صرف تعويضات للموظفين الأجانب وتشمل معاشاتهم، بالاضافة الى تعويضات للمساهمين في الشركة بلغت حسب الاتفاقية 28 مليونا و300 الف جنيه مصري، وهو مبلغ فاحش في تلك الأيام ويكفي أن تعلم أن صحيفة شيكاجو ديلي تريبيون كتبت بعد التوصل للاتفاق في صفحتها الأولى بتاريخ 30 ابريل 1958 (مصر تدفع 81 مليون للمساهمين في شركة قناة السويس)، فبعد الحرب وبعد ست سنوات من حكم عبد الناصر انهار فيها كل شيىء في مصر لم يكن الجنيه المصري قد واصل انهياره وكان يساوي وقتها 2.87 دولارا امريكيا تقريباً وظلت مصر تدفع ذلك المبلغ على أقساط حتى سنة 1964 حسب الاتفاقية!
الأسوأ من ذلك أن الاتفاق نص صراحة على أن تتخلى مصر عن أصول شركة قناة السويس خارج مصر، وهي أصول نشأت اصلاً من استثمار أموال مصرية، فكم كانت قيمة أصول الشركة خارج مصر؟؟
في مقال له، كتب سامي شرف مستشار عبد الناصر بقلمه، أن أرصدة الشركة فى بنوك العالم وممتلكاتها العقارية بلغت أكثر من 75 مليار فرنك بحسابات اليوم – بحسابات وقتها – وهو رقم فلكي!! أي أن عبد الناصر طرد موظفي شركة قناة السويس ثم دفع لهم تعويضات ومعاشات ومبلغ فاحش كتعويضات للمساهمين، وتنازل عن 75 مليار فرنك هي ارصدة الشركة وأصولها العقارية خارج مصر!!
والقناة التي ادعى المقبور عبد الناصر عودتها للمصريين، كانت في حوزة المصريين فعلياً، وإنما قام بطرد الموظفين من شركة قناة السويس، و الأطرف أن الأمريكيين تطوعوا بإرسال مرشدين ملاحين لتسيير الملاحة في قناة السويس، ليعملوا جنباً إلى جنب مع المرشدين الملاحيين السوفييت، وهو ما يكشف أن الخلاف الظاهري بين مصر وأمريكا حول مسألة سحب تمويل السد العالي، كان مجرد مسرحية أخرى ينفذها العسكر بإخراج أمريكي محكم.
أمريكا خاضت معارك دبلوماسية ضد المواقف البريطانية ودعمت عبد الناصر ضد القوى الاستعمارية القديمة، ويكفي لأن يدرك القاريء أن تأميم شركة قناة السويس كان قراراً أمريكياً، أن يعلم أن عميل أمريكا عبد الناصر ابرم اتفاقاً مع شركة قناة السويس قبل تأميمها بشهر يعترف فيه بشرعية الشركة وحقوقها، ولم يحرص على سحب أرصدة مصر من لندن وباريس والتي كانت تبلغ 112 مليون جنيه استرليني في بريطانيا و60 مليون دولار في امريكا تم تجميدهم و4 مدمرات مصرية تم حجزها في موانئ بريطانيا.
أمريكا كانت بحاجة لطرد بقايا الاستعمار القديم من المنطقة، و عبد الناصر كان بحاجة إلى (شو)إعلامي يقضي على خصومه السياسيين ويرسخ شعبيته في الشارع المصري، أمريكا كانت تردم تركة الاستعمار القديم في بلادنا وتثبت أقدامها بدلاً منه وكانت واجهتها في ذلك هو عميلهم عبد الناصر، حتى أن الإعلان عن صفقة الأسلحة التشيكية كان بإيعاز من مدير مكتب السي آي في مصر كيرميت روزفيلت وهذا ثابت في الوثائق الأمريكية.
وهكذا يمكننا أن نتخيل أنه في الوقت الذي كان فيه عبد الناصر يهتف في ميدان المنشية (قرار رئيس الجمهورية: تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية)، وكان المصريون يصفقون للزعيم وبيوت مصر كلها تنتفض من الفرح على ذلك الانجاز الوطني، كان هناك ضباط من السي آي إيه مثل كيرميت روزفلت ومايلز كوبلاند يسقطون على ظهورهم ضحكاً من طيبة ذلك الشعب (الغلبان) ويشربون نخب نجاحهم في طرد البريطانيين!
بعدما قرأت كل هذا، ادركت أننا كشعب نعيش بالفعل أمام شاشة سينما كبيرة، يتم تلفيق الأحداث عليها بينما يقوم اللصوص بإتمام صفقاتهم خلفها.
و للحديث بقية إن شاء الله!
** المراجع
كتاب ثورة يوليو الأمريكية وعلاقة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية لمحمد جلال كشك
كتاب لعبة الأمم مايلز كوبلاند (ضابط السي أي ايه)
دراسة بعنوان: الخداع الاستراتيجي اثناء أزمة السويس بقلم ديل كالاهان (ضابط سابق بالسي آي إيه)جامعة كاليفورنيا
اتفاقية تعويضات مساهمي شركة قناة السويس الموقعة في جينيف سنة 1958 بين الحكومة المصرية والمساهمين.
http://hansard.millbanksystems.com/lords/1958/may/14/suez-canal-compensation-agreement
امم مصر لاسياده
والشعب المضحوك عليه أخذ خازوووق
ولازال الحال كما هو عليه