لا أدري لماذا تذكرت اليوم أفلام المقاولات التي انتشرت بشكل هستيري في فترة التسعينات وأنا أقرأ خبر تحويل النيابة العامة للممثل المقاول محمد علي إلى الجنايات، بتهم التجمهر ونشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية في القضية المعروفة بـ “الجوكر”
كإعلامية فإن أشد ما يثير اهتمامي حين أعود بذاكرتي وأتأمل في تلك الحقبة هو بلوغ الاستراتيجيات الإعلامية التقليدية ذروة إنتاجها ودخولها في مرحلة الهرم، وظهور الحاجة لتجديد تلك الاستراتيجيات لتواكب العالم الجديد.
فحقبة التسعينيات لمن لا يتذكر شهدت سقوط الاتحاد السوفيتي، وكانت بداية سياسة القطب الواحد، ويمكن تسمية هذه الحقبة بالعشرية الأمريكية، حيث لم تكن الصين قد جنت بعد ثمار التحول الرأسمالي، وكذلك كانت روسيا في مرحلة نقاهة، وتبع ذلك الكثير من التحولات الكبرى على المستوى السياسي والاقتصادي والإعلامي وبداية عصر السماوات المفتوحة وبداية انتشار الإنترنت.
في نظري سرعة وسهولة التواصل الإعلامي أدي لتبني أجهزة المخابرات لاستراتيجية أقرب ما تكون لأفلام المقاولات. مثل تلك الأفلام التي كان يقدمها مشخصاتية الترسو امثال فيفي عبده، والشحات مبروك، وهياتم، وغيرهم. أفلام كثيرة يشبه بعضها بعضا، نفس القصة مع تشابه شديد في السيناريو ونفس مشاهد الكباريهات والمدمنين، مع بعض الاختلاف في صياغة الحوار، مع الاحتفاظ بنفس الإفيهات والجمل الرئيسية، ومع تغيير بعض وجوه الممثلين، شيء أشبه بأغاني شعبولا
منذ يومين كتبت عن استراتيجية الأفلام الهندية القائمة على التمطيط، وكيف استخدمها العسكر لكسب الوقت وإطالة المواضيع بمشاهد لا طائل منها، إلا حشو وحذف ما يريدون من أفكار على نار هادئة، ليرضي المشاهد بنهاية لم يكن ليقبلها في أول الفيلم، ودللت على ذلك بملفي الاصطفاف وسد النهضة وغير ذلك من الاستخدامات على المستوى الدولي مثل ما كان يسمى قديما بعملية السلام في الشرق الأوسط ومشهد النهاية بعد عمر طويل بتطوع الإماراتيين في منظمة نجمة داود الحمراء.
على العكس من ذلك تماما، تقوم استراتيجية أفلام المقاولات على ضربات خاطفة، ليس الغرض منها الإلهاء والمكلمة فحسب، بل توجيه ضربات مفاجئة للعقول وصدمات إعلامية قصيرة المفعول نسبيا، حيث يحتاج الجاني لتجديد الضربة من وقت لآخر للمحافظة على عقلية الضحية الإعلامية في نفس الوضع التخديري، وملاحقتها بضربة أخرى قبل زوال مفعول الأولى، حتى تموت الفكرة في عقل الضحية تماما، مع حقن الضحية بفكرة أخرى بديلة، بحيث لا يشعر إذا ما أفاق بعد نهاية عدد الضربات المكررة بفقدان أي شئ ويتمكن من إستكمال حياة العبودية في مزارع سايكس بيكو بمنتهى السعادة.
وبرغم التباين بين استراتيجيتي الأفلام الهندية وأفلام المقاولات وغير ذلك من أفلام نادي سينما العسكر، إلا أنهم يشتركون جميعا و يتقاطعون في تحقيق أهداف مشتركة، ولكن بمستويات وسياقات وجماهير مختلفة.
فليس كل ما يصلح للثوري الأصلي يصلح للكنباوي أو لثورجية ما بعد الانقلاب، ولهذا مقام آخر يطول.
قد لا يدرك محمد علي هذا، ولكن لا شك أن مخابرات العسكر تفيد منه بقصد أو بدون قصد، فما يعنيني هنا هو الصورة الإعلامية التي يؤدي إليها طرحه وتعاطي العسكر معه بصورة غير مسبوقة، وكأنما يوجهون الناس للاستماع إليه وإحياء ذكره من وقت لآخر ويعترفون بخوفهم منه!
فلا يوجد في التاريخ “رئيس دولة” يرد بنفسه على شخص يقوم بتسجيل فيديوهات من مكتبه في الخارج، لم نسمع مثلا مبارك يذكر أحد معارضيه باسمه. الأمر لا يعكس هشاشة دولة العسكر بقدر ما ينم عن إفادتهم من الضربات الإعلامية في أفلام محمد علي، والتي يمكن إبرازها في الآتي:
1- تحويل الثورة إلى معارضة: تحويل الثورة على منظومة طواغيت سايكس بيكو العملاء إلى صراع مع السيسي الفاسد الحرامي الذي أفسد جيش مصر ومؤسسات مصر ونهب ثروات مصر، بينما المفروض أن صراعنا الحقيقي مع ذلك الكيان الوهمي الذي يسمونه مصر، وليس مع مبارك أو سيسي أو أي طرطور يمكن للسيد الأبيض تغييره في أي لحظة للحفاظ على المنظومة على طريقة “بلاها سوسو خد نادية”، تماما كما حدث في لعبة يناير.
الأمر يذكرني بما انتشر وقتها من برامج صفراء عن فضائح مبارك الأخلاقية وزواجه من فلانة وعلانة وترتانة، وآيس كريم حفيده الذي كان يكلف الدولة مئات الألوف، وغير ذلك من أخبار الفضائح المحببة للجمهور، وكأن العسكر وسائر مؤسسات الاحتلال كانوا منشغلين وقت حكم مبارك بقراءة أورادهم من القرآن!
2- ثورة بلا أيديولوجية: محمد علي لا يحسب على أي تيار علماني أو إسلامي أو أي شئ، وهو نموذج يجرد معسكر التغيير من الصبغة الإسلامية التي اكتسبتها بعد الانقلاب على أول رئيس “إسلامي”، وهو أيضا وجبة مفرحة لإسلامجية الاصطفاف، مما يساعدهم على إضفاء ديكور الاعتدال أمام الغرب.
3- إللي فات مات: طرح محمد علي يجرد السيسي من كل جرائم الانقلاب وما تبعه من صد عن سبيل الله واعتداء على الدماء والأعراض وإهدار الأعمار في السجون، ويحصر الخصومة في فساده المالي والإداري وكأنما كل ما فات لا قيمة له.
4- توطين اليأس وتطويع الحس الثوري: تكرار الأمل المتبوع بإحباط من وقت لآخر يجعل الناس يستمرئون الصبر علي الذلة والمسكنة والتسليم للأمر الواقع، بحيث يرضون بأي بديل يلوح في الأفق حين يأذن من يحرك المشهد بتغيير حقيقي، ومن ناحية أخرى يعين المخرج على الإبقاء على السيسي إلى أن ينتهي من المخطط الذي جاء من أجله، بعد أن أمن أن الحراك الثوري صار أسيراً رهن إشاراته الإعلامية التي تبث اليأس أو الهمة وقتما تشاء.
5- ما بعد الاصطفاف وما بعد السيسي: بعد تمييع معسكر التغيير وحشوه بالإسلامجية المنبطحين ثم بسقط متاع الانقلاب وفلول 30 سونيا، كان لابد من لمسة أخيرة تجعل ذلك المعسكر جذاب لبقية الشعب المصري المطحون، الذي لا يعنيه كثيرا طرح الإسلامجية وإخوانهم الاصطفافجية العلمانجية، فكان لابد من لمسة أخيرة تحمل نفس خصائصهم، وكان المقاول محمد علي هو تلك الإضافة، ولذلك حرص محمد علي على التركيز على نشأته المتواضعة والجامعة العمالية التي لم يكملها.
كل ذلك كان يهدف لصناعة نخبة سياسية وإعلامية جديدة غير مؤدلجة لضخ دماء شابة في منظومة سايكس بيكو لتحيا بنشاط بعد انتهاء السيسي من مهام الخراب الموكلة إليه وظهوره كشرير يشكل عبئا على منظومة سايكس بيكو، ومن ثم استبداله بطاغوت جديد يستأنف الاحتلال بالوكالة، الأمر الذي يتطلب استبدال النخبة القديمة وتسميتهم فلولا يتحملون مرحلة السيسي وأوزارها. وهنا يبدأ الطاغوت الجديد ونخبته الجديدة الشغل على نظافة، وهكذا دواليك ما دام هناك جمهور يعشق أفلام المقاولات ولا يملون من مشاهدتها.
لعل أهم ما يميز أفلام المقاولات هو ذلك التطابق العجيب، فيلم محمد علي هو نفس فيلم هشام جنينة وخالد علي وسامي عنان والسفير معصوم مرزوق وحازم عبد العظيم وحازم حسني وكتائب التحرير وشرفاء الجيش الذين يتصلون بيوسف ندا استعدادا للانقلاب على الانقلاب، وهو أيضا فيلم عهد التميمي أو التصريحات المتأسلمة للخليفة ليفة من حين لآخر، وغير ذلك كثير من الأفلام المكررة المثيرة للاشمئزاز.
عملية تدوير كاملة لنفس السيناريوهات
وتستمر استراتيجيات أفلام العسكر تعمل بكفاءة مادام هناك دواب تأكل كل ما يوضع أمامها.
** ملحوظة** هدفي من هذا المقال أو سابقه، استراتيجية الفيلم الهندي ليس الحديث عن محمد علي أو الاصطفاف أو السيسي، ولكن هدفي الأول هو فك طلاسم ذلك السحر الأسود الذي يقدمه إعلام سايكس بيكو، واستخدم في ذلك أقرب القوالب الفكرية لنفهم سويا ما تعرضنا له من اغتصاب فكري في إعلام العسكر.
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ