في طفولتنا المغتصبة عقليا وتعليميا وإعلاميا كان التلفزيون المصري يذيع في العيد أفلاما هندية طويلة جداً، يمتد الفيلم لثلاث أو أربع ساعات، فتلعب وتأكل وتنام وتقوم وتجلس مع أقاربك أو تخرج لزيارة وتهنئة آخرين بينما الفيلم لازال مستمراً، حيث يولد البطل ويكبر ويحب ويدخل السجن ويخرج لينتقم فيقتل ويقتل ويحيا أكثر من مرة بمنتهي البساطة، فالموضوع كله فيلم هندي! حتى اعتاد الناس على وصف أي شأن يطول وتكثر تفاصيله العجيبة والغير مبررة بأنه فيلم هندي.
ولكن حين كبرنا وتغير الإعلام وغير طبيعة الحياة معه، ولم يعد أحد يشاهد تلك الأفلام، تحولت الأفلام الهندية لأسلوب حياة يعيشه أغلبنا ويشاهده كل يوم، ويتفاعل مع أحداثه! إلا قلة قليلة تربط بين الأخبار التي قد تبدو بمعزل عن بعضها، ولكنك إذا وضعت المشاهد بجوار بعضها البعض ستجد نفسك أمام أحد الأفلام الهندية القديمة التي اغتصبت عقليتك في الطفولة، وتركت أثرا سلبيا في عقلك الباطن ربما لا تشعر به، فجعلتك ترى الحياة في الصراع بين الخير المحض الذي لابد أن يبدو بشوشا عذب الصوت يحبه الجميع، والشر المحض قبيح المنظر أجش الصوت الذي يكرهه الجميع، ودائما ما تكون كل أسباب القوة والنصر في صالح الشر المحض، ولكن النهاية السعيدة لابد أن تتحقق وتنقلب موازين القوى في آخر ربع ساعة في الفيلم الهندي، أو في آخر حلقة من المسلسلات المصرية المملة حيث تكون أطول من بقية الحلقات لتكفي عودة المسافر وبراءة السجين المظلوم وقيام المشلول فجاة واكتشاف أن الجنايني والد البطلة رجل من الأثرياء.
حين كبرنا وظننا أننا فطنا لأضرار الإعلام وما يبثه من أفلام ومسلسلات تعبث بهويتنا كمسلمين، اكتشفنا أن هذه الكوارث تركت أثرا لا يقل خطورة عن السم الذي تشبعت به عقولنا فصرنا نرى العالم وموازين تقييم الرجال والتعامل مع أعداء الإسلام والتمييز بين الحق والباطل وفق سيناريو الفيلم الهندي إلا من رحم ربي وكفر بإعلام الرجل الأبيض
أصبح البعض مثل القطيع، لا عقل لهم
ينتظرون النهاية السعيدة وهم يضعون أيديهم فوق خدودهم
الأمر يشبه العانس في السنيما المصرية حين ترى عريسها المحتمل في كل من يرمي لها بكلمة طيبة.
قد يكون ذلك العريس هو الأنبا طيبوس شيخ الأزهر، أو أحد صناديد الانقلاب حين يلفظه العسكر فيجد ضالته في الكائنات الاصطفافجية والتيارات الإسلامية الهابطة، أو حتى أعتى عتاة طواغيت الرجل الأبيض ووكلاء الاحتلال الذي وصف نفسه بأنه جزء من مشروع الشرق الأوسط الجديد، وقسم القدس متطوعا إلى شرقية وغربية وأضاع الثورة السورية والليبية باتفاقاياته المشبوهة، وجر معسكر مناهضي الانقلاب للتطبيع مع العسكر باستيعابه للقيادات الإسلامية المنبطحة وقنواتهم التي حولت الأمر لمعارضة تقر بشرعية طواغيت الاحتلال وتدعو لمنافستهم سياسيا، وتجعل الأمر صراعا مع السيسي الوحش الشرير الذي خطف وأفسد ما يسمونه بالجيش ومؤسسات الدولة!
يتعمد مخرج النظام العالمي استخدام استراتيجية الفيلم الهندي فتجده يمط الأحداث، ليتعايش معها المشاهد ويألفها تماما كما كنا في طفولتنا نمارس أنشطة حياتنا والفيلم الهندي الطويل ممتد لا ينتهي.
فيلم الدول الطيبة داعمة الثورات والدول الشريرة، ومشاهد المصالحة المصرية التركية – أو إن شئت فقل فيلم المقاطعة – يتم عرضه منذ فترة طويلة، وبين الفينة والفينة تشتعل الأحداث ثم تنطفئ بتصريحات تطمينية كعدم تسليم المعارضين، ثم تشتعل مرة أخري بلقاءات وقرارت إغلاق قنوات ثم غلق برامج، و تنطفئ وتشتعل وهكذا، ولكنها في كل مرة تقترب من إعادة الصورة إلى ما قبل 2011، بعد أن أدت الدول الطيبة دورها في ضمان المسار الأصلي للربيع العربي بتجديد وجوه طواغيت الاحتلال بالوكالة واستبدالها بوجوه تطيل عمر منظومة الاستعباد، وديكورات أكثر قدرة على تسويق صفقة القرن والتمهيد “لإسرائيل الكبرى”. وشاشات يحتكرها ننص العايق وميزو طرطشة لشغل الناس ببعض المقدمات النارية وسب السيسي اللص الفاسد الذي استولى على الجيش المصري الشريف.
لمسة الفيلم الهندي وجودته الرديئة كانت متجلية في فيلم الاصطفاف 1 و2 و3 و10، حيث كان من أطول الأفلام وأكثرها أجزاءاً، مرة جمعية ومرة ائتلافا ومرة ميثاق شرف ومبادرات وحوارات وأشياء كثيرة جدا أحسب أن رئيس الشركة القابضة للكيانات الاصطفافية المدعو أيمن لمبة نفسه لا يستطيع تذكرها.
كانت أجزاء الفيلم يتم عرضها على فترات شبه متقاربة، مع إضافة وجوه جديدة ذات تاريخ انقلابي أكثر إجراما ومحاربة للإسلام في كل مرة، وكأنه موسم تكاثر الكائنات الانقلابية!
لا شك أن الأمر تطور مثلما تتطور الدراما في الأفلام الهندية، ففي البداية كانت تعودكم الجزيرة على مشاهدة سقط متاع الانقلاب في برنامج المشهد المصري، وكأن انقلاب الطواغيت وجهة نظر نناقشها ونختلف معها ورأي ورأي آخر، إلى أن وصلنا لمرحلة تصدرهم المشهد في قنوات اسطنبول كأيقونات للاصطفاف وإسقاط الانقلاب الذي كانوا من أعمدته، وعلى رأسهم عضو جبهة الإنقاذ أيمن لمبة الذي قال للرئيس مرسي رحمه الله: “إفعل أو ارحل.”
وحقيقة، لقد حقق فيلم الاصطفاف بجميع أجزاءه أعلى الإيرادات، وصار المُشاهد الإسلامجي المنبطح يمصمص شفتيه إعجابا بالمقدمات النارية والضيوف الانقلابيين.
إستراتيجية الفيلم الهندي يمكن تتبعها في إدارة طواغيت العسكر لملف سد النهضة بسلسلة مفاوضات طويلة مملة لن تنتهي إلا بعد الانتهاء من التعبئة والوصول لنقطة اللا رجعة، ولكنها مهدت الناس للتعايش مع الأزمة بشكل روتيني.
أو في قرارات الإزالة التي تخللتها تطمينات تهدئ المشهد وتوقف المظاهرات وتهدأ الغضبة وهكذا يتم الإخلاء والإزالات بمنتهي البجاحة.
إذا أردت أن ترى أثر استراتيجية الفيلم الهندي على المدى البعيد فارجع لحقبة التسعينيات ومطلع الألفية وتذكر ما كان يسمى وقتها بـ مفاوضات عملية السلام، وفي الحقيقة أن الأمر لم يكن إلا تمطيطاً للأحداث وكسبا للوقت وتعويداً لآذان الناس على سماع كلمة “إسرائيل” ومشاهدة مسؤوليها في النشرات استعدادا للتطبيع الكامل وتمهيدا لما قبل وبعد اتفاقيات أوسلو ووادي عربة والقضاء على الآثار النفسية للانتفاضة الأولى، ووصولا إلى مهرجانات التطبيع للجميع وصور الإماراتيين بزي منظمة نجمة داود الحمراء يعلو شعارها ملابسهم العربية!
ترقبوا المشاهد النهائية في فيلم المعارضة المصرية في الخارج وهو أحد إصدارات السينما الهندية:
فيلم المصالحة بين التيارات الاسلامية الهابطة مع السيسي والوصول لما يشبه مرحلة السادات التي شهدت استيعاب التيارات الإسلامية كجزء من ديكور المشهد يشبه حزب النور، وقد تم عرض برومو فيلم المصالحة منذ عدة سنوات ولكن تم تأجيل مشهد النهاية لحين استكمال حصد إيرادات الأفلام الأخري.
ولا تستغرب حين ترى السيسي مع الخليفة ليفة أو حتي مع بعض قيادات الإخوان المنبطحين، وتذكر دائما التبرير القديم للأحداث الغريبة بأن الأمر كله مجرد فيلم هندي!