في كتاب كل رجال الباشا يحلل الباحث د. خالد فهمي السياسة التي جرى بها تحويل مصر إلى مجتمع عسكري وعلى الرغم من أنه لا يناقش بالتفصيل وضع السكان ككل في هذه المنطومة الجديدة إلا أن تحليله ينطبق بشدة على المجتمع المصري ويكشف عن بدايات العبث في تركيبة المجتمع وتحويل مصر إلى معسكر كبير.
بالإضافة إلى ذلك يحلل الأدوات السياسية التي استطاع بها محمد علي إخضاع المدني الذي اصبح فيما بعد مجنداً وهي الأدوات التي جرى استخدامها على نطاق واسع لتشمل المجتمع كله.
وهي كما قلت بداية الحكم الجبري في مصر.
غير أن د. خالد فهمي يحلو له (ربما نتيجة لاتجاهه الفكري الليبرالي على الأغلب) ألا يتعمق في جذور استخدام محمد علي السياسي لهذه الأدوات, وارتباطه بالماسونية الفرنسية ولا الدور الذي لعبه عملاء نابليون (وحكومة نابليون) في وصول محمد علي للسلطة في مصر وفي تدعيم هذه السلطة.
فهو على ما يبدو من باقي كتاباته من انصار الدولة العلمانية ذات الحدود (دويلات سايكس بيكو).
إلا أن أكثر ما لفت انتباهي هو اتفاق تشريحه لأدوات السيطرة مع ما أقوله دوماً عن العقيدة البديلة التي جرى صنعها في مصر منذ عهد محمد علي وهو ما اكتشفته بالتدريج ومن خلال مراقبة سلوك العسكر وقراءة بعض أدبياتهم بالاضافة إلى بعض المصادر التاريخية (وهو لم يتحدث صراحة عن هذه العقيدة البديلة).
الجيش الالزامي الذي انشأه محمد علي كان عصا فرنسا السحرية التي بدلت عقيدة ونظام مصر وقيم مجتمعها من البداية وادخلت مصر في عصر الحكم الجبري الذي بشر الرسول عليه الصلاة والسلام بزواله.
دراسة تلك المرحلة ليست ترفاً ولا حديثاً تاريخياً, بل على العكس دراسة تلك المرحلة هي أمر لا غنى عنه لكل من يعادي دولة العسكر.
وكشف حقيقة الدور الاستعماري الفرنسي في دعم محمد علي ووصوله للحكم وحقيقة الضغط الفرنسي على الباب العالي لاصدار فرمان بتعيين محمد علي والياً على مصر (رغم رفض الباب العالي), هو تعرية لحقبة بداية الحكم الجبري وهو بداية الطريق الحقيقي لتخليص مصر من التبعية.
فمحمد علي الذي يوصف في أدبيات العسكر وحواشيهم من العلمانيين بأنه باني مصر الحديثة هو في الحقيقة (عراب الحكم الجبري), هو من بدأ علمنة المجتمع وتغريبه وتقديم دين بديل مزيف بدلاً من الدين, عاونه في ذلك عملاء نابليون المسؤولون عنه مثل دي ليسيبس (دي ليسيبس الأب وليس ابنه) وفليكس مينجن وبرناردينو دروفيتي والكولونيل بوتين وسليمان باشا الفرنساوي وكان ضابطا بالمخابرات والجيش الفرنسي من ومجموعة أخرى من الماسونيين الفرنسيين التابعين مباشرة لنابليون.
في كتاب (مصر في القرن التاسع عشر) يروي المؤلف كيف انقض صالح كوتش وكتيبته الالبانية على 500 من المماليك وغدروا بهم وبدأوا اطلاق النار من الخلف على ظهورهم.
التفاصيل المروعة تختبيء خلفها تفاصيل مروعة أخرى. ففي المشهد الذي يرسمه دي إيه كاميرون في كتابه ترى حواراً بين محمد علي وطبيبه الجنوي (من جنوا الايطالية) وهو يدخل عليه بعد المجزرة مبتسماً ليقول : هذا عيد لسموكم !
وتسمع شهادة ديليسيبس (الأب) وهو يقول أن محمد علي لم يكن واثقاً من نجاح المجزرة وأعد عدداً من الخيول في منطقة خلفية بالقلعة ليفر في حالة فشل المجزرة.
بعد المجزرة على الفور, اغلق الناس حوانيتهم, فاطلق عليهم محمد علي مرتزقته لينهبوا بيوتهم بحجة البحث عن المماليك. وكان المقصود من هذا الإرهاب ليس فقط مكافأة رجاله الالبان (الذين تخلص منهم فيما بعد), بل اشاعة حالة من الارهاب بين مسلمي مصر لكي يجبن الناس عن مواجهته.
كان عام 1811 عاماً مفصلياً في تاريخ مصر والمنطقة كلها, إذا انزاحت من أمام رجل فرنسا في مصر كل التهديدات التي كان من الممكن أن تعكر صفو حكمه.
ومن المهم هنا أن اذكر أن أمينة هانم نصرتلي زوجة محمد (رحمها الله) علي امتنعت عنه بعد المجزرة كزوجة وأن أحد الباحثين الاسلاميين اشار إلى أن مذبحة القلعة لا يقوم بها مسلم.
التفاصيل التي تحمل الصبغة الفرنسية شحيحة جداً ولكنها تكشف عن جانب خفي من التاريخ وهو دور جواسيس نابليون (كما سماهم أموري في كتابه : عملاء نابليون في مصر) في مذبحة القلعة.
المذبحة إذاً لم تكن عملاً مكيافيلياً قام به الجندي الأمي محمد علي بل كانت مخططاً استعمارياً واستشارة قدمتها ماكينة التجسس الفرنسية التي احتلت مراكز صنع القرار وصعدت عميلها محمد علي لخدمة مصالحها.
ليس الأمر إذاً كما حاولت كتب التاريخ التي كتبت كلها تحت حكم محمد علي وأولاده أو العسكر الذين جاؤوا من بعد انقلاب يوليو 52. لم تكن المجزرة فقط عملاً وحشياً اراد به مستبد ما, التخلص من خصومه, بل كانت كاسحة الجليد الفرنسية تقدم المشورة لرجلها.
صورة سوداء قاتمة تقبع خلف ستار الرواية المدرسية, تكشف عن تخطيط دؤوب قامت به دوائر الحكم الفرنسية, سواء بالضغط على الباب العالي لاصدار فرمان بتعيين محمد علي والياً على مصر أو بالتخطيط الداخلي لازاحة خصومة.
شذرات قليلة ولكنها تفصح عن حقيقة الاحتلال الخفي الذي تعيشه مصر منذ قرنين. والأمر يحتاج بطبيعة الحال إلى المزيد من البحث. اتحدث هنا عن تعمق في البحث ليس فقط لإعادة كتابة التاريخ ولكن لمعرفة كيف بدأ الحكم الجبري وكيف وضع عملاء فرنسا, مصر على طريق العلمانية.
في المراحل التالية, تزداد الصورة وضوحاً وترى الاسماء الفرنسية تتكرر أكثر فأكثر. سليمان باشا الفرنساوي ضابط المخابرات الفرنسي (وضابط الجيش وخادم نابليون الشخصي في الوقت ذاته) يدرب جيش محمد علي ويشرف على انشاءه. كلوت بك الطبيب الفرنسي, يشرف على الرعاية الطبية لجيش محمد علي. برناردينو دروفيتي قنصل فرنسا, يبدو في الصورة, الحاضر الغائب فهو رئيس المحفل الماسوني الفرنسي بالاسكندرية والذي كان محمد علي عضواً به.
صورة قاتمة غائبة, يحتاج من يعملون ضد العسكر لاستجلاءها, ليس فقط على سبيل اعادة استكشاف التاريخ. بل لترتيب معلوماتهم ومعرفة طبيعة الدولة التي يواجهونها والتي نبتت منذ مائتي عام.
تذكرت على الفور وأنا اقرأ تفاصيل المذبحة, المقولة الشهيرة (لا تقتلوا أسودكم فتأكلكم كلاب أعداءكم) !