شتان بين السيسي الذي وقف منذ خمس سنوات ينظر للكاميرات بتوتر وعلامات القلق تعلو وجهه وهو يتلو بيان الانقلاب العسكري وبين حديثه المنفعل في المؤتمر الصحفي الأخير مع الرئيس الفرنسي ماكرون.
في الصورة الأولى كان يدرك أنه يقدم على فعلة لا يدري عاقبتها وفي الصورة الثانية كان يتكلم بانفعال وبدا عليه أنه كان يصدق نفسه في كل كلمة يقولها. مشهد آخر ظهر فيه منذ عدة سنوات وهو يرتدي زيه العسكري بعد أن انجلى غبار مجزرة رابعة بشهور وهو يعلن ترشحه بلهجة مستجدية وبطريقة أثارت موجة عاتية من السخرية. وفي مشهد حديث ظهر في حلقة شبكة “السي بي أس” الأمريكية وهو يرد على سؤال عن المعتقلين في مصر. في المشهدين الأحدث يبدو واضحاً أنه يصدق نفسه.
خمس سنوات فترة طويلة بلا شك، وهي فترة جرت فيها مياه كثيرة ولكن العامل الأبرز الذي يمكن أن يكون السبب في هذا التغيير هو كرسي قصر الاتحادية. وبدون شك كانت الملاحظة التي أطلقها ماكرون عن المدونين الذين اعتقلوا لاحتفالهم بذكرى 25 يناير هي السبب في انفعال السيسي، لكن ليس من المجدي التعويل على هذه المواقف واعتبارها مؤشرات على تغيرات ما تلوح في الأفق، كما يفسرها الحالمون، فيمكن القول إن السيسي اعتاد هذه المواقف بحيث منحه هذا تطعيماً مناسباً فأصبح متمرساً على التعامل معها بإجابات مكررة لقنوه إياها.
والحقيقة أن ردود الفعل المرحبة التي تثيرها هذه المواقف لدى معسكر رافضي الانقلاب هي نتيجة طبيعية لحالة الركود الواضحة في المشهد السياسي المصري. وما لفت نظري في الواقع هو أن السيسي تحدث بلهجة من يصدق نفسه. كان هذا ظاهرا في تلك النبرة التي تحدث بها والتي غلفها الانفعال بطبيعة الحال لطرح سؤال كهذا على العلن وهو سؤال كان من الواضح أنه فاجأه.
وبغض النظر عن أن إيجاد عمل للشباب والتخطيط لإدارة بلد بحجم مصر هو أمر يتجاوز بكثير قدرات السيسي إلا أنه من المؤكد أنه تناسى صور جثامين الشهداء الشباب في رابعة والنهضة وصور الشهداء الذين سقطوا في الحرس الجمهوري والمنصة وعربة الترحيلات وغيرها من المجازر وأنه تناسى أنه المسؤول عن تخريب الاقتصاد وزيادة نسب الفقر والبطالة وأقنع نفسه بأنه يحاول إيجاد عمل للشباب وأنه ما باليد حيلة.
إنها تلك الآليات العجيبة في النفس البشرية التي يوهم بها الانقلابيون أنفسهم بأنهم مصلحون. السيسي يتوهم أنه يهدي الناس سبيل الرشاد. لا شك أن النظر لملايين البشر من زجاج طائرة أو الوقوف على كرسي عال والنظر إلى بلد بأكملها من أعلى يورث النفس نوعا من التيه. ولابد أنه يخدر نفسه بأوهام عما يتصور أنه مهمته الإصلاحية، ولا ريب أنه أصبح الآن يصدق كل ما كان يحاول كذبا إقناع الناس به في تصريحاته التي كررها أكثر من مرة عن أسباب قيامه بالانقلاب وأنه كان يريد إنقاذ مصر من حرب أهلية.. الخ.
بغض النظر عن كذب كل هذه التبريرات فلا بد أنه شخصيا ابتلعها فهو لن يواجه نفسه كل لحظة أنه مسؤول عن قتل آلاف العزل في صبيحة واحدة في مجازر مثل رابعة والنهضة وعن سد الأفق السياسي، ولن يقول لنفسه إنه دمر اقتصاد مصر في سنوات قليلة بل سيحاول بطبيعة الحال أن يقنع نفسه أن ما يشنه من حروب اقتصادية على الشعب بإجراءات كالغلاء ورفع الدعم هو إصلاح مؤلم. لا شك أنه يصدق كل الأكاذيب المضحكة التي يقولها إعلامه وأن نفسه تصور له أنه في مهمة قدرية.
في نظري، المسؤول عن تغير المشهد من السيسي الواجم المتوتر إلى السيسي الذي يقف إلى جانب ماكرون ويظن نفسه مسؤولا عن تشغيل الشباب هو التخبط الذي يسود المشهد المناهض للانقلاب حتى الآن والعجز عن إيجاد معادلة للحل.