نعم كانت الصور القادمة من غزة ذاك اليوم تثقل كاهلي. تعمدت ألا أعلق وقتها على الموضوع. الصورة كانت مؤذية لي بشدة. مشاهد الانقلابيين في غزة كان لها على ألسنتنا طعم مرير لم نشعر بمثله من قبل.
أذكر شعوري وأنا أشاهد على الجزيرة تفاصيل مجزرة رابعة لحظة بلحظة، أذكر حالة العجز والدموع في عينيّ. أذكر غضبي يوم مجزرة رمسيس بعدها بيومين.
لم أرغب في إعادة المشاهد ذاتها، وآثرت ألا أتابع ما يحدث في غزة. قررت أن أدير ظهري لما يحدث هناك، رغم أهميته، لأنني لم أحتمله.
كانت من بين أشد المشاهد إيلاما، صورة عسكري الانقلاب التي رفعها أحدهم على أحد المباني، أراحني قليلا أن تناقل البعض أن أهلنا في غزة مزقوا الصورة.
نعم أصارحكم، أنا لم أحتمل صور عمرو أديب ولميس الحديدي وخالد فوزي في غزة.
بدت لي الصور كأن هناك من أعاد ضبط المشهد على سنوات ما قبل الثورة. عمر سليمان يزور غزة، ويُستقبل فيها بحفاوة باردة، رغم ما يقوم به المخلوع من حصار ضد غزة.
صحيح أن خالد فوزي بدا أقل فرعونية من عمر سليمان، وأكثر منه توسلا، صحيح أنه افتقر إلى تلك الهالة من العجرفة، وبدا متزلفا ناعما نوعا ما، وهو يحاول التظاهر بالصداقة. لكني رأيت في خلفية المشهد عمر سليمان يقهقه مع ليفني.
سمعت صوت ضحكاته ولمست سروره من المشهد، وهو يرقب خطوات عمرو أديب ولميس الحديدي.
وكان من الطبيعي أن ترى حالة الاضطرار في تلك الابتسامات المغتصبة التي بدت على وجوه قيادات غزة، ولكن هذا لن يجعل المرارة تختفي من حلقك.
بشكل أو بآخر، كانت الصورة بمثابة خيار (إعادة ضبط المصنع).. رحلة في الزمن قطعتها غزة وسافرت بها إلى أوضاع ما قبل الثورة في 2011 في مصر.
أهلنا في غزة الذين وزعوا الحلوى ابتهاجا بانتخاب الرئيس مرسي اضطروا لابتلاع مرارتهم والتظاهر بأنهم على ما يُرام.
ورغم كل هذا، كان هناك من انتفضوا غضبا للأمر برمته، بل وبالغ بعضهم واعتبره تطبيعا كاملا مع الانقلاب. وربما كان تطبيعا، ولكنه تطبيع قسري تحت تهديد الجوع والحصار.
حصار اشتد منذ الانقلاب في 2013، حتى تحولت غزة بأكملها إلى شِعب أبي طالب.
والحقيقة أنني وإن كنت أفهم ما يشعر به الغاضبون، إلا أنني لا ألوم غزة بالقدر ذاته.
البعض كان يتوقع أن تصمد غزة إلى ما لا نهاية حتى لو ظلوا قرونا لا يفعلون سوى الحديث عن الفشل الاقتصادي للانقلاب في مصر!!
والحقيقة أن غزة نفسها لم تختر أن تعود 10 سنوات للوراء، ولم تسع لإيقاظ عمر سليمان، بل ربما لا أبالغ لو قلتُ إن المسؤول الأساسي عن هذه المشاهد القادمة من غزة هو معسكر التغيير في مصر.
فمعسكر التغيير في الواقع لا يصنع شيئا سوى تمني التغيير.
البوصلة غائبة والرؤية معتمة. بل إن هناك حالة من عدم الإدراك لأهمية وضرورة التغيير في مصر، وحتمية الإسراع في حسم الأمور ضد الانقلاب.
بل وتحولت الجهود المناهضة للانقلاب في مجملها على الأرض إلى حركة احتجاجية تآكل زخمها مع الوقت، بفعل تدخلات الحزبيين ومحاولاتهم فرض رؤى ضيقة على الحراك وأهدافه، وعلى رأسها عودة الرئيس مرسي.
مهما كانت المشاهدة في غزة مؤلمة، لكنها لم تنشأ من العدم، بل صنعتها سنوات من التقاعس وانعدام الرؤية الذي أدى بالكثيرين إلى التواكل على غزة المحاصرة.
علينا أن نواجه أنفسنا، ونعترف أن المشاهد التي آلمتنا جميعا صنعها أولئك المتواكلون على غزة.