في الحقيقة، لست ممن يقدسون حدود سايكس بيكو، ولا احمل لها أدنى مودة، ولا أنوي أبدا إظهار أي تصالح معها حتى بعد حوالي مئة عام من ترسيمها، ولا أتعامل معها إلا كتعاملي مع واقع أرفضه. ولست قومية أدعو لوحدة الدول العربية، بل وأراها دعوة عصبية قبلية، والمتابع لكتاباتي سيدرك أنني أدعو إلى إعادة الخلافة، لتكون مظلة لوحدة إسلامية أشمل وأعم من التعريفات القومية الضيقة.
لا ينبع رفضي لتسليم تيران وصنافير إلا من رغبة في الحفاظ على ما تبقى من قطع الأراضي التي خلفها اتفاق سايكس بيكو؛ أملا في توحدها بدلا من تمزيق تلك الأراضي إلى قطع أصغر يصعب استردادها فيما بعد.
وعندما تم الإعلان عن تسليم تيران وصنافير للسعودية أدركت أن هذه الجزر ستذهب للكيان الصهيوني، وأن دور السعودية في هذه الصفقة يقتصر على دور السمسار، فالولايات المتحدة التي تحرص منذ عام 1956 على وضع الجزيرتين تحت حماية دولية لتضمن حرية الملاحة لسفن الكيان الصهيوني، لن تسمح بانتقال الجزيرتين من يد إلى يد دون أن تأخذ الضمانات الكاملة على بقاء الوضع على ما هو عليه، بل إن الكيان الصهيوني لا بد سيحصل على مصلحة أكبر من انتقالها للسعودية، ونستطيع أن ندرك هذا من تصريحات المسؤولين الصهاينة التي نقلها الإعلام، والتي أفادت بوجود مفاوضات بين عسكر الانقلاب والسعودية من جهة، والكيان الصهيوني من جهة أخرى تحت رعاية أمريكية، وذلك كله في غفلة من أصحاب الحق الذين فوجئوا في ذكرى سقوط بغداد الثالثة عشرة، التي صادفت ذكرى مذبحة بحر البقر، وبعد يوم من ذكرى مذبحة دير ياسين بتسليم الجزيرتين على طبق من ذهب ((اسميا)) للسعودية.
كان تسلم العسكر لحكم مصر بعد انقلاب السي آي إيه سنة 1952 إيذانا بوضع اللمسات الأخيرة لحدود سايكس-بيكو، وقام عبد الناصر بتسهيل انفصال السودان عن مصر أثناء مفاوضات الجلاء مع الاحتلال البريطاني، ولم يمت إلا وقد سلم غزة وسيناء للجيش الصهيوني.
طوال فترة الاستقلال المزعوم لم تتوقف عملية تثبيت سايكس- بيكو لتفادي أي وحدة لممتلكات الدولة العثمانية السابقة، في الوقت الذي عملت فيه الشعارات التي كانت تطلق بشكل محسوب على دغدغة آمال الشعوب العربية في الوحدة.
كانت الشعارات تنطلق من البيانات السنوية للحكام العرب، بينما كانت حروب الميكروفونات تندلع كل لحظة بين حكام سايكس-بيكو والنزاعات الحدودية لا تتوقف.
الكل كان يكيد للكل، عبد الناصر يعلن أنه يريد نتف لحية فيصل، وفيصل ينجح في سحب جيش عبد الناصر إلى اليمن بمعاونة السادات، رجله في القاهرة وبعلم المخابرات الأمريكية ثم يتعاون بعدها مع الموساد والمخابرات البريطانية في سحق جيش عبد الناصر في اليمن.
الكل كان يريد أن يسقط الكل.
في كتاب عقود من الخيبات رسالة من فيصل إلى جونسون يطالبه فيها برعاية هجوم صهيوني على مصر وسوريا والمقاومة الفلسطينية في غزة والضفة؛ حتى لا يستغلها أحد فيما بعد بحجة تحرير فلسطين.
والرسالة ليست ابتكارا من فيصل، فقد كان التخطيط مسبقا، ولكن يبدو أنها تذكير للرئيس الأمريكي بالتزاماته التي سبق الاتفاق عليها من قبل، وهي تشبه رسالة السادات التي أرسلها لكيسنجر أثناء تمثيلية حرب أكتوبر، والتي أكد له فيها أنه لا ينوي الهجوم أكثر من ذلك، وكانت تأكيدا لالتزام السادات بالتمثيلية المتفق عليها.
والآن، وبعد حوالي 60 عاما من البيانات العاطفية والحروب بين الأنظمة التي عينها الاحتلال قبل أن يرحل واستلمتها الولايات المتحدة، أضحى جليا أن سايكس بيكو في سبيلها للسقوط، لتفسح مكانا لحدود الدم، كما سماها الجنرال رالف بيترز رئيس المخابرات العسكرية الأمريكية الأسبق، في دراسته المنشورة سنة 2006 في مجلة القوات المسلحة الأمريكية، التي دعا فيها لتقسيم مقسمات سايكس بيكو إلى أجزاء أصغر.
حدثان كشفا التجهيزات لحدود الدم، الحديث العلني عن تقسيم سوريا، والغارات الروسية الوحشية على سوريا، وتسليم تيران وصنافير إلى الكيان الصهيوني.
حدود سايكس بيكو في أيامها الأخيرة الآن على فراش الموت، وهناك من يريد تقطيع سايكس – بيكو إلى قطع صغيرة ومستعمرات أصغر، وعلى الجانب الآخر، ترغب الشعوب فيما أرى في استعادة ما قبل سايكس بيكو.