كان ذلك اليوم هو آخر انتصارات مصر حتى وقتنا هذا. لم تذق مصر بعدها طعم النصر الا على الشاشات. في مسخرة أكتوبر مثلاً. كان البسطاء يحتفلون على أنغام الأغاني التي انهالت على اسماع المصريين, بينما كان جنود الجيش الثالث يُشحنون في السيارات تحت حراسة جنود العدو الصهيوني.
وقف أحد ضباط العدو الصهيوني وقتها يحدث مراسلاً لقناة بريطانية, وأمامه يقبع جنديان مقيدان من أيديهما من الخلف, معصوبة أعينهما. قائلاً : لا شيء, سوف نضمهم للثمانية آلاف أسير لدينا.
(الفيديو متاح على صفحتي العامة بموقع الفيسبوك ومتاح على حساب وكالة الأسوشيتد برس على اليوتيوب)
وفي مشاهد أخرى, وقف جنود الجيش الالزامي المهزوم في أكتوبر أمام الكاميرا التي صورت أولهم وأخرهم واستعرضت مشاهد أسر جنود جيش السادات وإخراجهم من الحفر التي حفروها بينما جنود العدو يصوبون سلاحهم نحوهم.
وفي لقطات أخرى كانت سيارات الطعام القادمة إلى الجيش الثالث المُحاصر تخضع لتفتيش جنود العدو قبل أن تعبر للجنود الالزاميين العطشى.
في صفحة 335 من مذكراته المعنونة (مشاوير العمر) يروي كمال حسن علي مدير المخابرات العامة الأسبق واحد المشاركين في مسرحية أكتوبر وأحد من شاركوا في التحضير للمفاوضات السرية في المغرب مع موشيه ديان قبل أن تتخذ هذه المباحثات صبغة العلنية, يروي كيف منعت أمريكا موشيه ديان من القضاء على الجيش الثالث المُحاصر (45 الف ضابط وجندي) وكيف انقذته من هلاك محقق.
كانت قوات العدو ترتع على بعد أقل من 100 كيلومتر من العاصمة, ودباباتهم تروح جيئة وذهاباً وكان جنود الجيش الثالث العطشى يذهبون بأرجلهم إلى العدو الصهيوني رافعين أيديهم فوق رؤوسهم طلباً للماء ليسقطوا في الأسر, حتى تجمع منهم لدى العدو 8031 أسير حسب أرقام وزارة الخارجية المصرية نفسها والتي نشرتها البي بي سي والمنشورة في أكثر من مصدر أوروبي وأمريكي.
كانت تلك المساخر تدور على الجبهة بعد مذبحة اقامها جيش العدو الصهيوني لجنود السادات الالزاميين, والذي كان حينها قد أدى دوره المرسوم في تسهيل عبور قوات العدو إلى الضفة الغربية عن طريق أوامره بتطوير الهجوم, حسب الاتفاق بينه وبين كيسنجر.
لتنتهي الحرب بلطمة في البداية وجهها الشاذلي للكيان الصهيوني بعد أن قام موشيه ديان بتخفيف عدد قوات خط بارليف إلى النصف وبعد أن قام جيشه بازالة الالغام بطول خط بارليف لتتمكن قوات السادات الالزامية من العبور.
كانت تلك الفضائح تُعرض في تليفزيونات العالم وصحفه, وكانت جولدا مائير تلتقط الصور حول مدينة السويس, بينما السادات يخدر شعب الخرابة المغيب بأناشيد النصر المزعوم.
لم يحدث في التاريخ أن جرى تغييب شعب وعزله إعلامياً ونفسياً بهذه الطريقة حتى عن المواد الحقيقية التي تبثها قنوات لا يتطرق إليها الشك.
كان كيسنجر قد اجتمع بعدد من رؤساء الشركات والبنوك في فيللا عائلة وارينبورج اليهودية في منتجع سولتجوبادن بالسويد لبحث تفاصيل قطع البترول التي سيقوم بها صبيه فيصل بمناسبة الحرب التي تقرر موعدها بعد 5 شهور من ذلك الاجتماع, والسخرية أن مدير شركة سيات مثلاً كان حاضراً لذلك الاجتماع وعدد آخر من الصحفيين في عدة صحف أوروبية والبارون دي روتشيلد وكانوا يعرفون موعد الحرب التمثيلية قبل أي وزير مصري بشهور.
كان ذلك النصر المزعوم هدية كيسنجر لشعب المزرعة السعيدة, لرفع أسعار البترول لتتمكن شركات البترول الكبرى من بيع البترول المكتشف حديثاً في خليجي الاسكا والمكسيك لينقذها من الافلاس المحقق ولفصل الذهب عن الدولار وربط الدولار بالبترول الذي تقرر ايداع ارباحه باتفاق مع فيصل في بنوك اوروبا وامريكا وانتاج نقود من الهواء عبر إقراض الدول المستوردة للنفط لتعويض الفارق في الاسعار الجديدة وبفوائد أعلى.
بالاضافة إلى إخراج أكبر كتلة سكانية من دائرة الصراع وتأمين الكيان الصهيوني واخلاء سيناء تماماً وعزلها لتكون في حد ذاتها منطقة عازلة بين ملايين المصريين والكيان الصهيوني وتحت حراسة جيش الخدم الذي اطلق التكبيرات بأوامر من الشاذلي رحمه الله, ثم وقع في الأسر بعد ذلك لأنه لا يقاتل عن عقيدة.
قبل تلك المهزلة بـ 166 عاماً كان اخر انتصارات مصر الحقيقية, لكن لم تكن آلات التصوير قد اخترعت بعد وقتها. لم تكن هناك كاميرات لتصور مسلمي مصر وهم يداهمون متاريس حملة فريزر في حماد بمحافظة البحيرة, حين قرر فريزر أن يجرب حظه للمرة الثانية بعد هزيمته في رشيد (أمام الأهالي أيضاً).
لم تكن هناك كاميرات لتصور الأهالي (قبل أن تنشيء فرنسا لرجلها, محمد علي جيشه المدجن الالزامي) وهم يقتلون جنود وضباط بريطانيا ويأخذونهم أسرى.
لكن الجبرتي صور لنا المشهد في تاريخه.
روى لنا الجبرتي كيف اشترى الأهالي السلاح وتنادوا بالجهاد وداهموا متاريس الجيش البريطاني بالتكبيرات. روى لنا كيف اصاب الذعر جيش بريطانيا حتى استسلم, فقتل منه الأهالي المسلمون عدداً كبيراً.
روى كيف شحن اجدادنا, ضباط وجنود بريطانيا (التي اصبحت عظمى بعد انشاء الجيوش الالزامية المدجنة في بلادنا), على المراكب ليُعرضوا في القاهرة.
حفظ لنا الجبرتي اسماء قادة الجيش البريطاني, الميجور مور والميجور جلسند وكيف وقف أهالي بولاق يشاهدونهم ومعهم 480 أسيراً من جيش بريطانيا, ضابطان يركبان حمارين وباقي الأسرى يسيرون على الأقدام في حراسة الأهالي. لم تكن هناك جيوشاً الزامية.
كانت هناك فقط عقيدة.
لم تكن فكرة الجيوش الالزامية المدجنة قد عُممت بعد لتصيب العقيدة في مقتل ولتتحول إلى عمود فقري للدولة العلمانية الحدودية الحديثة التي لم يُقدر لها الانتصار في أي حرب.
كان هذا هو أخر انتصارات مصر الحقيقية, تحت راية العقيدة.
المصريون ليسوا شعباً خانعاً, ولكن هناك من عبث عمداً في عقيدته. حتى وصل الحال إلى النصب عليه واقناعه بان هزيمة اكتوبر التي كان يسقط فيها الجنود الالزاميون في الأسر كالجراد, نصر عظيم يدرس في الاكاديميات البيطرية كما يقولون لأنصاف المتعلمين.