هناك في رابعة، تلك المدينة الفاضلة التي تشعرك بالراحة والأمان، حيث الحضور الجميل للمعتصمين من مؤيدي الرئيس مرسي، وهم يهتفون ضد الانقلاب، ويخرجون بمسيرات ضخمة تجوب المنطقة المحيطة بالاعتصام
كنت استمع مثل مئات الآلاف غيري إلى كل ما يدور على منصة رابعة وألتمس فيهم الأمل يوميا
رابعة كانت هي المدينة الفاضلة، كانت مجتمعا نقياً تُذكر العسكر وأتباعهم بوجههم القبيح وأخلاقهم العفنة
هناك حيث ترى أسماء صقر وهي تنظر للكاميرا مبتسمة، وحبيبة عبد العزيز وهي تغطي مشهداً ما، وأسماء البلتاجي وهي تبتسم ببراءة
هناك حيث الفتيات مليحات الوجوه يرتدين الحجاب ويجلسن على الطرقات يقرأن القرآن من مصاحف صغيرة
هناك في رابعة، حيث يحرص الشباب على الصلاة وقراءة القرآن
هناك في رابعة حيث يحرص الجميع على صلاة التراويح في صفوف متراصة حيث الجسد الواحد الذي يركع ويسجد ويقوم
هناك في رابعة، حيث الأطفال الصغار يلعبون في منتهى البراءة، تستطيع أن تسمع ضحكاتهم حتى في الصور الصماء
كنت أشعر من تصريحات إعلام الانقلاب عن رابعة أن طُهر الفتيات وبراءة الأطفال هناك كان يضغط على أعصابهم، وأن مشاهد صلاة التراويح والحرص على صلاة الفجر كان يستفزهم ويُشعرهم بضآلتهم
ما زلت أذكر صلاة الفجر والتراويح في رابعة
وما زلت أذكر مشاهد مجزرة رابعة مهما مرت السنين
عشرات الصور والأحداث التي لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير فيها وتذكرها طيلة السنوات الماضية
ففي ركن خاص من حاسوبي الشخصي، ما زلت أحتفظ بألبوم لرابعة، صور ومقاطع ما قبل وما بعد المجزرة
أحتفظ بذلك المشهد الذي كان بمثابة نقطة تحول في حياتي، صوت هذا الطفل الصغير الذي يقف باكيا أمام جثمان أمه الشهيدة المستكينة في راحتها الأبدية، وهو غير مصدق أن هناك من تجرأ على سلب أمه منه، لا يصدق أنها لن ترد عليه أبداً وهو يصيح (اصحي يا ماما)
لعل سنوات عمره الصغيرة وقتها لم تسعفه على فهم ما حدث، بل أن ما حدث يومها لم نستوعبه نحن الكبار، الذين جلسنا متسمرين أمام الشاشات غير مصدقين الإجرام الذي قام به ذلك الجيش المجرم وداخليته البلطجية
أين أنت الآن يا صغيري؟
صوتك لا يزال يرن في أذني، وأنت تصرخ وتحاول أن توقظ أمك التي قتلتها رصاصات العسكر الغادرة
مشاهد عديدة لا تزال عالقة بذاكرتي، كمشهد الشجر المحترق و السيارات المتفحمة، والشوارع التي غطى السواد أرضيتها، وذلك الدخان الأسود الكثيف الذي كان يرتفع للسماء فيعلو كل البنايات المحيطة بالمكان
مشاهد الفوضى والحرائق واللهب والأرض المشتعلة ورائحة شياط أجساد الضحايا التي تستطيع أن تشمها من الصور، وأصوات أنين يخيل إليك من بشاعة الصور أنك تسمعه.
مشاهد يعف اللسان عن وصفها عن همجية ميليشيات الانقلاب التي دهست جثامين الشهداء والجرحى بالبلدوزرات، وحرقت المستشفى الميداني، ثم أضرموا النيران في مسجد رابعة
أين ذهب الأطفال الذين كانوا يلعبون وهم فرحين بملابس العيد؟
ترى هل كان الطفل الذي حملوه وهو ملفوف في ملاءة وقت المجزرة واحداً منهم؟
الزمن توقف عندي عند تلك المشاهد وعند هؤلاء الأطفال والفتيات والشباب الذين دفعوا أعمارهم في هذا اليوم
لم أنس أحداً منهم أبداً، لم أنس هذه الفتاة الجالسة في الفراغ والخراب الزاحف حولها الذي تركته تلك العصابة المجرمة، فجلست وسط هذا الخراب والدخان وهي تدق على طبق معدني غير مبالية بقرب أجلها، عسى أن تنقذ دقاتها قلوب لا تزال تنبض
لم ترهبها السحب السوداء التي تحيط المكان، لم ترتعد من قرقعة الرصاص، بل جلست تنتظر أجلها
لم أنس صورة ذلك الطفل الذي وقف خلف جداراً ليحميه من الرصاص، وهو يرفع يديه الصغيرتين ليرفع الآذان رغم الرصاص المتطاير حوله
كان يرفع صوته بالأذان ثم يختلس نظرة على الفوضى والدماء والضجيج الذي يملأ المكان حوله
لم يكن يعلم متى تحين لحظاته الأخيرة، لكنه قرر ألا يمنعه صوت الرصاص وسحب الدخان الأسود عن رفع الآذان.
من منحك يا صغيري تلك الرجولة؟
كيف اكتشفت بعقلك الصغير أن صوت الآذان يبعث على الطمأنينة في القلب؟
كيف تحولت فجأة من طفل صغير كان يلهو ويلعب مع أقرانه فرحاً بملابس العيد، إلى شاب يرفع الآذان بينما تتطاير حوله زخات الرصاص وسحب النار في كل مكان؟
ترى ماذا حدث له بعد ذلك؟
هل مات والديه خلال فض رابعة؟
المشاهد تتسارع وتيرتها، ولم أعد أرى هذا الطفل
كل ما أستطيع رؤيته الآن هي صيحات كلاب ومجرمي الجيش والداخلية وهم يقتحمون الميدان
لقد هاجموا المنصة، الرصاص من حوله في كل مكان
الجرافات تدوس الجثامين الملقاة على الأرض
القناصة يقتلون المعتصمين ويقتلون مع المعتصمين أحلام هذا الصغير الذي بات يحلم بلعبة صغيرة وملابس جديدة، وربما حضن والديه للمرة الأخيرة قبل أن يرى ألسنة اللهب تتصاعد من كل مكان حوله ومعها تلاشى كل شيء
ما زلت أتذكر صورة ميليشيات الانقلاب وهم يصوبون أسلحتهم نحو مجموعة من الشباب بعد أن أجبروهم على رفع أيديهم فوق رؤوسهم
المشاهد كانت مؤلمة، وكأنك تشاهد لقطات من فيلم حرب من إنتاج هوليود.
عشرات الوجوه الضاحكة اختفت فجأة، حياة مُحيت بضغطة زناد أحدهم
لم يكن أحد يتصور أن هذا الكم من الوحوش يعيش في مصر، بل ويتسمون بأسماء المسلمين
لم يكن أحد يتصور أن ميليشيات الانقلاب ستحرق وتقتل كل هذه الأعداد في مجزرة لم تشهدها مصر من قبل
هؤلاء المجرمين الذين لم يخوضوا حرباً وجهاً لوجه مع عدو كانوا يمارسون في تلك اللحظة المهمة التي جاءوا من أجلها لحكم مصر، ولكن بشكل علني هذه المرة
وهي قتل المسلمين العزل
يومها أدركت كما أدرك غيري أن المعتصمين إن كانوا مسلحين كما كان يشيع إعلام الانقلاب، ما تجرأ عليهم أحد، ولاستطاعوا تحرير الرئيس مرسي وقتها من الخطف
ربما الحسنة الوحيدة التي صاحبت تلك الذكريات المؤلمة هي أننا اكتشفنا حقيقة الجيش المصرائيلي التي كانت تختبيء خلف ركام من المشاهد التمثيلية التي رسمت للمصريين صورة مخالفة عن حقيقة هؤلاء المرتزقة
بل أننا اكتشفنا أيضا أن هناك عدداً لا بأس به من المصريين باع عقله وذبح ضميره وتخلى عن دينه مقابل الفتات التي يرميها إليهم العسكر وفي المقابل، يصدقون أن رابعة كان بها أسلحة نووية، وأن بها كرة أرضية تحت الأرض وأن الإخوان المسلمين هم من أسقطوا الأندلس
مشاهد لا تزال محفورة في الذاكرة، وفي القلب منها، مشاهد الممثلات اللاتي خرجن على الشاشات بوجوه تملؤها المساحيق وقلوب أغلظ من قلوب المغول يبتسمن في سعادة وفرح بالغين فرحاً بنبأ مجزرة فض رابعة، وتلك الحالة الجنونية من التشفي والفرح لدى مجرمي مدينة الإنتاج الإعلامي وهم يعلنون في راحة خبر التخلص من اعتصامي رابعة والنهضة
مشاهد لن تمحى من الذاكرة إلا بالقصاص من كل من ساهم وشارك في هذه المجازر ولو بشق كلمة
من أجل تلك المشاهد، ومن أجل كل لحظة تألمها أي طفل فقد والد، أو والدة، ومن أجل كل زوجة فقدت زوجها، ومن أجل كل أم فقدت إبنا لها
من أجل دماء من لا أعرفهم معرفة شخصيا، لكنهم يعيشون داخل كل منا
لن ننسى رابعة
ولن يجف دم هؤلاء إلا بالقصاص
رحم الله ضحايا الإنقلاب