كررت في أكثر من مقال وفي أكثر من لقاء تليفزيوني أن دور الجيوش العربية في خريطة ما بعد سايكس بيكو هو العمل كقوات شرطة كبيرة ضد الشعوب، وأن الفارق الوحيد بين الجيوش وقوات الشرطة هو وجود الدبابات والطائرات، وقد رأينا كيف استخدمت تلك الأسلحة في ليبيا في بدايات الثورة ضد الشعب، وشاهدنا تطبيقا عمليا في سوريا استمر أربع سنوات حتى الآن.
المراجعة التاريخية البسيطة قد تكفي لفهم الصورة، غير أن هذا لا يبدو مقنعا لمن ضمرت عقولهم بفعل حظائر إعلام العسكر، فالاحتلال بكل بساطة الجملة، قام بتقسيم ممتلكات الخلافة العثمانية إلى علب صفيح صغيرة محاطة بأسوار، رسمها الضباط البريطانيون وعينوا غفيرا لكل علبة، وزودوه بطائرات ودبابات والقوا إليه ببضع أوامر، بالضبط كما تترك منزلك لتسافر للدارسة في أوروبا أو أمريكا وتلقي بالأوامر للبواب:
قف هنا
من هنا إلى هنا حدودك لا تتخطاها
إياك أن تتمرد هذه الشعوب
لديك أجهزة إعلام استخدمها في تثبيت سلطتك
اصنع من نفسك زعيما
قم بمحو هويتهم الإسلامية
أوهمهم بوجود حريات وأحزاب
سمح للأفاقين والصغار بإنشاء أحزاب حتى يلتهوا في معركة مختلفة
وإياك ثم إياك أن تفرط في أمن “اسرائيل”
من أجلها قمنا بتعيينك
كنا نسمي تلك الأنظمة جهلا، بدول الطوق، وهو في الحقيقة طوق الكلاب الذي يلتف حول رقبة العبد المختار، الذي يقع عليه اختيار الاحتلال ليصعد لكرسي الحكم في الدول المحيطة بالكيان الصهيوني، يلتف الطوق حول رقبته ويؤمر بالنباح على سكان علبة الصفيح التي يحكمها نيابة عن الاحتلال، بينما يمسك البنتاغون بطرف السلسلة التي تتحكم في الطوق، ويسمح أحيانا للروس بإمساك طرف سلسلة أخرى على سبيل التنويع وكسر الملل، وفي النهاية تتحرك السلاسل بتوصيات من الكنيست.
وربما تتضح أهمية سوريا التي لا يدركها البعض إذا علموا أن السيناتور ريتشارد بلاك قال نصا لقناة “روسيا اليوم”، الناطقة بالإنجليزية منذ شهور “إذا سقطت دمشق، فستتبعها الأردن ولبنان ولن يكون سقوط أوروبا بعيدا”.
بهذه البساطة قالها الرجل، بكل صدق قال، إن أوروبا مهددة، وهو ما قد يثير سخرية البسطاء أو أدعياء الثقافة الذين نبتت أدمغتهم من إعلام العسكر عبر ستين عاما من التغييب.
وإذا أردت أن تتأكد أن أمر سوريا جد لا هزل فيه، وأن تتأكد أن هناك تنسيقا بين كل من روسيا وأمريكا اللتين تبدوان لك عدوتين بفعل سنوات من الإعلام الناصري، فاقرأ ببساطة تفاصيل لقاء كيري ولافروف اللذين اتفقا على “سوريا موحدة ديموقراطية علمانية”، وذلك بعد يوم واحد من القلق الذي أبدته الولايات المتحدة لضرب الطائرات الروسية للمدنيين في سوريا.
قد تتنافس الحكومتان ولكن إن تعلق الأمر بالإسلام، فالطرفان ينسيان خلافاتهما الفرعية ويبدأان في التآمر.
منذ شهر تقريبا كتبت تحليلا عن الحنية المفاجئة التي أصابت الإعلام الغربي وحكومات الاتحاد الأوربي وأمريكا وقت غرق الطفل إيلان رحمة الله عليه، ووقتها قلت إن سبب هذه العواطف المفاجئة التي جاءت بعد أكثر من أربع سنوات من التجاهل للمجازر في سوريا، كانت بسبب الانتصارات التي حققتها الثورة السورية، وأن جيش بشار لم يعد قادرا على مواجهتها، فكان لابد من بدء حملة نزوح جماعي سني من سوريا لخلخلة سوريا من السنة الذين يمثلون الحاضنة الشعبية للمقاومة.
وهو تفسير الضربات الجوية الروسية على المناطق السكنية خلال اليومين الماضيين، فهم يريدون توجيه ضربة للحاضنة الشعبية السنية على غرار مذبحة دير ياسين التي ارتكبتها العصابات الصهيونية لإخلاء القرى الفلسطينية.
لم يعد لدى الغرب ترف إخفاء دوافعه هذه المرة، فجيش الوكيل المحلي قد تم تدميره وحزب الله فشل فشلا ذريعا، والخطر في سوريا يقترب كثيرا من الكيان الصهيوني.
وهو ما يؤكد ما كنت أكرره دائما، تلك الجيوش مجرد عصابات من الغفر مهمتها الأولى الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني، فإذا انهارت تدخل صاحب التوكيل والغرب كله كتلة واحدة، وإن بدا غير ذلك للبعض، والدول العربية مقاطعات أمريكية أوروبية روسية، تتلقى أوامرها من الخارج وتلك الجيوش التي تراها ما هي إلا مؤسسات فولكلورية تنصب عليك باسم الحدود.
التورط الروسي قد يطيل أمد الحرب، ولكنه لن يوقف عملية تحرير سوريا، وكما تورط السوفييت في المستنقع الأفغاني وذاقوا الهزيمة والمذلة، فستغوص أقدامهم في الرمال المتحركة السورية وستبتلع جيشهم إن شاء الله.