في الصالون الواسع تجلس فردوس بجانب الراديو وتدير مؤشره بحرص, وصوت شوشرة يتعالى من الراديو وبعد عدة محاولات قصيرة تصل إلى وجهتها ويبدأ صوت عبد الناصر في التصاعد من المذياع.
“قرار رئيس الجمهورية : تؤمم شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية”
تجهش فردوس في البكاء انفعالاً غير مصدقة.
وعلى الجانب الآخر, أوروبي ما يكسر أواني ما وهو يصرخ بعبارة ما في عصبية وانفعال ما.
المشاهدون المنبهرون, الذين شاهدوا فيلم (ناصر 56) حين عرضه في السينما لابد أنهم شعروا بالانبهار, ولابد أن بعض خفيفي القلوب منهم قد أفلتت من عيونهم دمعة ما, ولابد أنه كان من بينهم من تشبث بمقعده والانفعال يغزو جسده ومؤشرات الأدرينالين قاربت على الانفجار.
نجاح كامل في إعادة تدوير عبد الناصر ساعدت عليه براعة الراحل أحمد زكي رحمه الله والذي أجاد دور عبد الناصر. ولا أستطيع بالمناسبة أن أمنع نفسي من التفكير في احتمال أن يكون الفيلمان (ناصر 56 وأيام السادات), أعمالا دعائية صُنعت بالأمر. الاحتمال قائم ومنطقي ولا يمكن استبعاده على أي حال وإن لم يكن هو بيت القصيد.
ماذا لو عُرض الـ Making الخاص بالفيلمين؟
لا ريب أن المشاهد ستكون مخيبة لآمال الكثيرين, التجربة نفسها لطيفة من الناحية الإعلامية وتصلح موضوعا لدراسة لنيل درجة الماجيستير في كلية من كليات الإعلام. ماذا لو عُرض الـ Making بعد الفيلم مباشرة؟
على حد علمي لا يحدث هذا. ماذا لو شاهد المتفرجون المخرج في البلاتوه وهو (يشخط) في عبد الناصر (أحمد زكي) ويقاطعه وهو يلقي قرار التأميم؟
ماذا لو رأى المتفرج أمينة رزق وهي تدخل إلى مكتب عبد الناصر, حاملة (البؤجة) التي تحوي ثياب جدها الذي مات في حفر قناة السويس, تمازح أحمد زكي؟
مشاهدة الـ Making هي في رأيي عمل غير تجاري بالمرة وهي الطريق الأقصر لخسارة الفيلم تجارياً, فحتى المشاهد يحب أن ينخدع, في قرارة نفسه يعلم أنه مخدوع وأن كل هذا تمثيل ولكنه يحب أن يعود إلى منزله بعد نهاية العرض مصطحباً تلك الكمية من الأدرينالين التي انفجرت في عروقه مع أحداث الفيلم.
ربما لهذا السبب يقبل الناس على السينما أكثر من إقبالهم على المسرح.
عرض الـ Making يدمر تلك الهالة ويفسد ذلك الشرود ويقطع على المشاهد حالة السباحة في ذلك العالم الافتراضي الذي دخله من شاشة العرض.
ولهذا السبب لا يتحمس الناس كثيرا لعرض الـ Making الحقيقي لتلك الأحداث, والـ Making موجود في الكتب التي عاصر أصحابها تلك الأحداث, فكتاب لعبة الأمم على سبيل المثال يشرح جانباً من فيلم التأميم والقراءة بين سطور الكتاب تفسر لك لماذا تعاون السوفييت والأمريكيون في أوج الحرب الباردة بينهما لمساعدة المرشدين الملاحيين المصريين في قناة السويس ولماذا اتفق الاثنان على توجيه الانذارات لبريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني.
القصة الحقيقية ربما كانت اكثر تعقيدا وهي قصة لها علاقة بانقلاب المخابرات الأمريكية على مصدق قبل ثلاث سنوات من الحرب (كيرميت روزفلت ضابط المخابرات الأمريكية الذي كان مسؤولا عن انقلاب يوليو 1952 وعن عبد الناصر هو نفسه الذي ادار عملية الانقلاب على مصدق في ايران).
وتعميق قناة السويس لتسمح بعبور الناقلات الجديدة, وإيداع عبد الناصر أرباح قناة السويس في بنوك أوروبا قبل التأميم بفترة مع اعترافه بحقوق الدول المالكة لشركة قناة السويس, بالإضافة إلى تصريح وزير الخارجية الأمريكي العجيب والذي تحدث فيه عن تمويل السوفييت للسد العالي قبل حتى أن يظهر السوفييت في الصورة.
القصة معقدة وطويلة ولها علاقة بمصالح شركات البترول وتثبيت مراكز الأقطاب الجديدة للعالم وقتها (الاتحاد السوفييتي وأمريكا) بدلا (بريطانيا وفرنسا) العجوزتين.
تذكرت هذا كله وأنا أشاهد, جانبا من كلمة قائد الانقلاب في عيد الأم, وهو يتحدث عن (حصالته) التي يسميها (صندوق تحيا مصر).
بابتسامة آخذة في الاتساع شاهدته وهو يقول:
“تمول المشاريع السغيرة من ساندوء تحيا ماسر”
واتسعت ابتسامتي وانا أرى كيف التهب كفَّي زوجته من التصفيق وتذكرت فردوس عبد الحميد في فيلم ناصر 56.
المشهد البائس لم يكن ليكتمل الا بالحاجة “سلسبيلة” التي زارته لتتبرع بمبلغ 200 ألف جنيه وهو تنويع على مشهد الحاجة زينب وعلى مشهد أمينة رزق في فيلم ناصر 56.
فقط كان عليهم أن يضعوا زوجته في غرفة بعيدة إلى جانب راديو عتيق لتستمع إلى قرار “تمويل المشروعات السغيرة” وتنهمر دموعها في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة من تاريخ مصر.
ويبدو أنهم قريبا سيدمجون نقابة المهن التمثيلية في جيشهم ليصبح اسمها نقابة المهن الانقلابية وغرفة الصناعات السينمائية العسكرية.