أتفهم تماما حالة البهجة التي تصيبنا حين تصدر جهة ما قرارا ما يخزي عصابة الانقلاب.
البهجة بل والشماتة أمران مفهومان تماما، لكن ما لا تسعفني قدراتي المحدودة في استيعابه في الحقيقة، هو تلك الحالة من التواكل، التي تجلعنا نبدو كما لو كنا متفرجين، نصفق حين يلكم الممثل رئيس العصابة على الشاشة.
البيان الذي أصدره الاتحاد الأوروبي وأوصى فيه بحظر المساعدات لمصر، على خلفية مقتل الطالب الإيطالي على يد جلادي داخلية الانقلاب، الذي دعا للإفراج غير المشروط عن المعتقلين وإلغاء قانون التظاهر الذي أصدرته العصابة، أثار حالة من البهجة وبالغ البعض في فرحه بالبيان فاعتبره صفعة أو لطمة أو لكمة أو ركلة للانقلاب، وهو لا شك كذلك.
لكن هذا البيان كشف عن حالة من التراخي والاتكالية الثورية التي أصابت فريقا من الثوريين، فقد أصبح بعضنا يتصرف باعتباره متفرجا، يجلس في الاستاد ليترقب بلهفة هجوم لاعب ما ثم يقفز فرحا بهدف حققه في مرمى الفريق الشرير.
الحالة في مجملها تكشف (ولنكن صرحاء) عن أن بعضنا ينتظر نجدة ما.
يتغير مسمى النجدة المنتظرة بحسب خلفياته وقناعاته، فهناك من ينتظر شرفاء الجيش الوهميين، والبعض الآخر ينتظر نظرة عطف من الاتحاد الأوروبي أو الإفريقي أو “فيفا”، فيطرب لبيان شديد اللهجة لا تعقبه في الغالب أي خطوات عملية، وهي لعبة العصا والجزرة التي يجيدها الغرب بأكثر مما يتصور البعض.
الثوار في سوريا على سبيل المثال شبعوا تصريحات من أوباما شخصيا، تتحدث عن أنه لا مكان لبشار في سوريا!!
خمس سنوات من (اللا مكان لبشار في سوريا).
ثم ماذا بعد؟
لا شيء، سوى متاهة متشابكة من اللقاءات وجلسات الشاي وطاولات العشاء وغابة كثيفة من التصريحات المسرحية والتلاسن بين روسيا وأمريكا، أحيانا من أجل إضفاء بعض النكهة على المشهد، ثم اجتماعات في جنيف ثم فراغ!
أعقبه محاولة فرض هدنة لا تفيد سوى السفاح بشار ونظامه، بعد أن كاد يتهاوى تحت ضربات الثوار ولتلتقط عصابات حزب الله أنفاسها بعد أن كادت تتآكل.
الحالة الوحيدة التي تحرك فيها الغرب عن قلق حقيقي، كانت في يناير 2015 عندما بدأت عمليات المقاومة في مصر تتخذ طابعا تصاعديا أقلق الغرب، فخرجت تصريحات تدعو الجانبين لضبط النفس!!
منذ 200 عام، واجه أجدادنا الاحتلال الفرنسي في ثورتي القاهرة الأولى والثانية. وعلى الرغم من وحشية الاحتلال والجرائم التي ارتكبها، نجح أجدادنا في فرض واقع مقاوم جديد على فرنسا أدركوا معه أنه ليس بإمكانهم الاستمرار.
الشاهد أن قدرتنا على فرض واقع على الأرض هي العامل الأول والأهم، ثم بعد ذلك تبدأ تروس السياسة في العمل، وليس العكس.
الوجه الآخر لبيان الاتحاد الأوروبي، الذي ربما لا يلمسه البعض، الذي حذرت منه مرارا قبل ذلك، هو أنه يستدرج فريقا منّا إلى زاوية حقوقية تحصر الثورة في مصر في جانب الانتهاكات، كما تسميها اللغة الدبلوماسية الأوروبية اللطيفة، بدلا من استخدام لفظ “جرائم”.
حالة دائمة من الاستدراج إلى الزاوية الحقوقية وتحويل قضية الانقلاب على الرئيس المنتخب ودماء الشهداء وبيع مصر بالكيلو للعدو الصهيوني، وخيانات العسكر إلى التماس برفع المظالم وربما يتعطف وقتها المندوب السامي الأوروبي أو لا يتعطف، فقط عليك أن تستمطر رحمات الاتحاد الأوروبي وتزداد خشوعا، وتشعل بعض الشموع وتتنسك وتجتهد في الدعاء انتظارا للهابي إند.
الخطأ هنا، هو تقديم الجانب السياسي على الجانب الثوري، والخلط يأتي من تشوش تعريفات الثائر مثلا، فضلا عن التشويه المتعمد الذي مارسته مخابرات العسكر باقتدار لصورة الثائر، وتصويره على أنه ذلك الشاب (الكيوت) الذي يهتف فيسقط النظام، هناك خلل واضح في توزيع المهام بين الثوار وغطائهم السياسي، يجب أن يُعالج.
حالة الاحتفاء وتبادل الأنخاب فرحا ببيان الاتحاد الأوروبي، وفي المقابل حالة عدم الاكتراث التي رصدتها اليوم لدى القطاع الثوري، تكشف عن وعي أكثر عمقا وتجذرا لدى عموم الثوار، وعي ربما يفتقده البعض.
الثورة ما تزال قادرة على فرض إرادتها على الجميع، والثورة لا تستجدي ولا تبتهل، بل تفرض الواقع على الأرض، فقط نحتاج إلى ترتيب أوراقنا.