آيات عرابي تكتب |لقطات من المشرحة

 

أرخص حاجة الإنسان … الجملة الخالدة التي تبدو من متطلبات الجنسية المصرية، كما لو كانت ختما على جواز السفر.

الجملة التي شقت طريقها إلى ألسنة بعض أقارب ضحايا مركب الوراق المنكوب.
 
مشهد النيل الصامت ليلا، تمر من فوقه على استحياء بعض الأضواء الخافتة احتراما لهيبة الموقف، والجموع المذهولة المتجمعة حول مكان انتشال المركب الغارق، وبعض متعلقات الضحايا.
 
حذاء هنا وطبق طعام هناك، غاص صاحبه أو صاحبته في أعماق المياه المظلمة، والأضواء الكاشفة تزيد من هول الموقف، فبعد لحظات يخرج جثمان أحدهم، وما تبقى من أسرته ينظرون بذهول غير مصدقين.
 
سيدة مسنة ترتدي السواد تقف على الشاطئ تحاول مزاحمة جموع الفضوليين لتلقي نظرة على جثمان ابنها، قبل أن يتحول إلى رقم في معهد ناصر ثم يوارى التراب.
 
رائحة الموت الثقيلة تخيم على النيل الصامت والنهر يلفظ جثمانا تلو الآخر، مشهد جنائزي مفزع يليق بأحد أفلام الرعب.
 
رجل في منتصف العمر سحقت نفسه أعباء الحياة يقف مستندا على أحد جدران المستشفى في قلة حيلة، يتمتم بكلمات غاضبة عن الحكومة والشرطة، ثم يفقد تماسكه ويلطم خديه في عدم تصديق “سبعة من عيلة واحدة ماتوا”، أسر كاملة تحطمت، بيوت خلت من سكانها، آلام ومآتم.
 
وفي النهاية سيلقون إليهم برزمة من الجنيهات أقل مما يحصل عليه شهريا عضو لجنة إلكترونية، كلفوه بكتابة تعليقات من نوعية (تسلم الأيادي) على الفيسبوك.
 
أسر كاملة سحقوها ضمن من سحقوا من ملايين المصريين الذين استعبدتهم عصابات العسكر.
 
أصبح مشهدا متكررا أن يعود الأبناء في أكفانهم إلى أمهاتهم، فهذا تخترق صدره رصاصة وهذا يقتله مركب في النيل، وهذا ينتحر تحت عجلات المترو وكأنما تحولت عصابات العسكر إلى متعهدي خدمات نقل النعوش إلى المنازل.
 
منذ أيام قليلة غادر ستة من الشباب منازلهم ليصلوا العيد، ففتحت عليهم عصابات العسكر النار فأغرقت ملابسهم بالدماء وأرسلتهم إلى قبورهم، رائحة الموت الخانقة تملأ الهواء في مصر.
 
عصابات من الغربان المتشحة بالسواد، انفلتت من عقالها ونشرت القتل في شوارع مصر.
 
وعلى الجانب الآخر، تنقل بصرك، فتجد الشاويش قبيح الوجه، يطالب المصريين بالتبرع بعد أن سرق ما يزيد عن 40 مليار من أموال الخليج، وحوله تجد عشرات من المسلحين والسيارات لحراسته بينما يكاد أهالي ضحايا مركب الوراق يقبلون أقدام الشرطة لانتشال جثامين ذويهم.
 
تحولت مصر إلى مشرحة كبيرة مساحتها مليون كيلومتر مربع.
 
تحولت مصر الخضراء بمساحاتها الطينية الطيبة إلى أرض يرفرف الموت فوقها، وتسيل الدماء على حوافها، أرض يحيطها سلك شائك وعسكر خلعوا زي التنكر الذي ارتدوه 63 عاما فظهرت تحته النجمة السداسية، يحملون سلاحا يصوبونه إلى صدور شعب يرزح أثقلته سرقاتهم وخياناتهم.

مشاهد تذكرك بالعبيد في المزارع الأمريكية قبل تحريرهم.
 
شعب كامل تستعبده تلك العصابة الدنسة التي نبتت في مكاتب السفارة الأمريكية بالقاهرة سنة 1952.
 
عصابة من أراذل الخلق احتلت مصر منذ انقلاب 1952 بمباركة المخابرات الأمريكية ورضا أسيادهم في الموساد، فنشرت فيها الخراب والدمار والتعاسة، وكأننا نرى بأعيننا مشاهد من الاحتلال المغولي لبغداد.
 
ربما لا يدرك العسكر بضحالة عقولهم، المصير الذي ينتظرهم، فلربما نجا المقبور عبد الناصر من ذلك المصير، نتيجة تخلف أدوات الإعلام وقتها وسيطرة العسكر عليها سيطرة تامة، ولربما نجا المهرج السادات لأنه عزف على وتر رغبة الشعب في الشعور بالانتصار فأعطاهم صورة زائفة لنصر مزعوم غطت على صورة الجيش المهزوم في الكيلومتر 101، ولربما نجا المخلوع لأنه فقط كان سعيد الحظ، فوقع الانقلاب قبل أن تنال الثورة منه، ولكنني أرى اليوم سحبا سوداء تتجمع في سماء مصر، سحبا من نار تزداد اشتعالا يوما بعد الآخر، صامتة مترقبة واثقة كالنيل، تحتشد بالسواد والظلام كصفحة مائه التي خيمت فوقها رائحة الموت، فالشعب المستعبد اقترب كثيرا من حافة الانفجار، وقد يبدو على السطح هادئا مستكينا، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.