بعض الجمل قد يكون لها رنين موسيقي يطرب من يستمع إليها. إحدى هذه الجمل كانت تتردد كثيراً على ألسنة الكثيرين في مصر من سياسيين وإعلاميين وغيرهم بعد الخامس والعشرين من يناير 2011. جملة كانت تطربني أنا شخصياً وهي أن أكبر إنجاز حصل الشعب عليه هو أنه انتزع حق التظاهر. وهذا كان صحيحاً إلى حد كبير، فلأول مرة أصبح بإمكان الشعب أن يعترض على كل ما لا يعجبه. وسيتضح بعد سنتين، أن هذا الاطمئنان الذي كان يتحدث به السياسيون وغيرهم عن حق التظاهر لم يكن في محله.
تراكم المظالم
وربما لا أكون مبالغة إن قلت: إن المصريين لم يتظاهروا خلال تاريخهم بالكثافة التي تظاهروا بها خلال الفترة من 25 يناير 2011 وحتى مجزرة رابعة. ولم يكن السبب في هذا أن الشعب كان متعطشاً فقط لممارسة حقه الذي ظل ممنوعاً منه لعقود، ولم يكن الأمر مجرد نوع من تجربة هذه الخبرة الجديدة التي لم يعهدها الناس، لكن مصر نفسها كانت تغلي تحت السطح بالمظالم. عقود من المظالم تراكمت في كل القطاعات. فساد لم يترك مساحة من الأفق إلا لوثها، ثم رأى الشعب، هذا التظاهر وقد أجبر مبارك على الرحيل، فبدأ يجرب حظه مع هذا الاختراع السحري في محاولة للتحرر مما أثقله خلال عقود.
كانت الصورة تبدو كسطح من الماء يغلي، فهؤلاء موظفو إحدى شركات القطاع العام يتظاهرون من أجل زيادة الرواتب، وهؤلاء خريجو بعض الكليات يتظاهرون من أجل حقهم في التعيين، وهؤلاء عمال بعض المصانع يتظاهرون من أجل علاوات كانت تأخرت.
كانت هناك تظاهرات إزالة المظالم، ثم كانت هناك تظاهرات من مستوى أعلى وهي تظاهرات مكافحة الفساد، كان الدرس الذي تعلمه الشعب من تجربة 25 يناير أنه اذا كانت هذه الأداة قد أسقطت مبارك، فهي قادرة على إسقاط من هم أصغر منه، وبدأ الشعب يستخدم أداة التظاهر كوسيلة رقابة غير رسمية يحارب بها الفساد.
كانت ثقافة التظاهر تغزو المجتمع في مصر. وأذكر وقت زيارتي لمصر منذ سبع سنوات في صيف 2011 حين تجولت بميدان التحرير أن الميدان كان ممتلئاً بالمتحمسين الراغبين في ممارسة التظاهر لأقل سبب. كان الشعب وقتها أقرب لمن اشترى ثوباً جديداً فرح به فهو يرتديه في كل مناسبة.
التظاهر المضاد
بالطبع كان هناك من أفرطوا في ممارسة التظاهر لأهون الأسباب ولكن المظاهرات كانت أغلبها لمظالم حقيقية عانى منها الناس عقوداً. في المقابل كانت هناك شريحة “المستقرين” كما يسميها البعض وهي الشريحة التي ترفض فكرة الاعتراض على السلطة وهؤلاء كانوا رافداً مهماً من روافد العسكر، وهذه الشريحة وإن كانت تنفر بشكل طبيعي من التظاهر إلا أنها لم تجد أمامها وسيلة للتعبير عن نفسها سوى التظاهر هي الأخرى، وبدا هذا واضحاً في التظاهرة التي خرجت عند المنصة لدعم المجلس العسكري.
في هذه المرحلة كانت الأمور على وشك الوصول لمراحل عبثية، فداعمو المجلس العسكري كانوا بعد أقل من سنة من انتخاب الرئيس مرسي، يتجهزون للمشاركة في مظاهرة 30 يونيو والتي كان مقدراً له أن تقضي على حق التظاهر تماماً، أي أن الثورة المضادة استخدمت إحدى مكاسب 25 يناير للقضاء على كل مكاسب الشعب من 25 يناير. وبعد 30 يونيو كان أهم ما التفت إليه الانقلاب العسكري هو تحجيم قدرة الشعب على الاحتجاج، فأصدروا قانون التظاهر والذي أعاد الشعب إلى خطوط ما قبل 25 يناير، بل إن الخطوة التي سبقت هذا كانت (تظاهرة) الدبابات والمدرعات في ميدان التحرير لتغلقه في وجه الشعب.
في نظري أنه من الضروري مناقشة دروس 25 يناير وما اكتسبه الشعب والأساليب التي واجهت بها الثورة المضادة، المكتسبات الشعبية.