لم تكن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم شق ترع وقنوات وبناء منازل في المدينة المنورة
بل كانت رسالته تبليغ ما يوحى إليه من الله عز وجل ونشر الإسلام وتمكينه
لم يكن تنظيم معايش المسلمين مهمة سيدنا أبي بكر الصديق حين تولى الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تكن هذه مهمة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بعد الصديق
ولم تكن هذه مهمة سيدنا عثمان ولا سيدنا عليّ رضي الله عنهما
بل ورغم توسع دولة الإسلام في عهد سيدنا عمر بن الخطاب
لم تكن هذه مهمته الأولى وإن جاءت تلقائياً ضمن مهام الحكم
فتنظيم معايش الناس وتيسير حياتهم مهمة من مهام الحكام
ولكنها مهمة من مهام الحكم وليست كل الحكم
وهي مهمة يعين لها الحكام وزراء لتنظيمها والإشراف عليها بينما يتفرغ الحاكم لإدارة شؤون الدولة محكوماً بعقيدة الإسلام
فتنظيم معايش الناس من حيث الطرق والعمل والمعمار والصحة والعلاج وغيره على أهميته هي مهمة تأتي تلقائياً ضمن مهام الحكم التي يقوم بها الحاكم الذي يُشترط فيه أن تكون مهمته الأساسية هي الدفاع عن الإسلام
(ومع ذلك فمن يقرأ كتاب سيجريد هونكه ووصفها لمستشفيات المسلمين في بغداد والأندلس والقاهرة وغيرها يدرك ان تنظيم معايش الناس في دولة الإسلام منذ ألف سنة بلغ درجة من الرقي لم تبلغها دولة من قبل
هي مهمة داخلة في مهام الحكم في الإسلام وليست أولها وليست هي ما استخلف الله الإنسان من أجله
ونزع هذه المهمة ووضعها معياراً للتقييم يعني الوصول إلى نتائج عبثية كأن تعتبر أي دولة أوروبية يحكمها نظام علماني شديد الإلحاد انجح من الخلافة الاسلامية في العهد الأموي مثلاً !!
وهذا المنهج في التقييم يحمل في باطنه روحاً الحادية وهذا طبيعي، فهو منهج نشأ في أوروبا مع ما يسمى بحركة النهضة الأوروبية والتي بدأت تتحدث عن الدولة العلمانية المتجردة من الدين وبالتالي فهو منهج يعادي الدين من الأساس وينظر إلى مسألة الحكم وإلى الحياة كلها على طريقة (ان هي الا حياتنا الدنيا)
ومع بدء الحملات الصليبية الحديثة في عصر نابليون بونابرت ودفع فرنسا لعميلها محمد علي لحكم مصر جرى نسخ هذا المنهج ونقله حرفياً إلى العالم الإسلامي كأحد مستلزمات فكرة الدولة العلمانية الحديثة
فالدولة الحديثة هي قطعة أرض يخدمها المواطن
والجيش الإلزامي هو جيش مكون من جنود مواطنين يحمون الحدود
والحاكم (وبغض النظر عن طريقة اختياره) يتم تقييمه بما يقدمه للمواطنين من خدمات دنيوية
وليكن الحاكم كافراً عربيداً سكيراً لكن فليقدم أفضل خدمات للمواطنين ويشرف على حسن سير (مؤسسات الدولة).
وهو منهج علماني شديد الإلحاد في جوهره كما ترون
وفي هذا المنهج يمكن للدولة نفسها أن تكون كافرة
فيمكنها أن تكون شيوعية كما في عهد عبد الناصر أو أن تكون دولة العلم و البزرميط في عهد السادات الذي كانت خدود زوجته مداساً لبيجين وكارتر وفورد ويمكن أن تكون دولة يتمنى حاكمها تحويل المساجد إلى ديسكوهات كما في عهد مبارك
وفكرة تقييم أداء الحاكم والدولة على أساس معايش الناس هو تضخيم لأحد الواجبات الفرعية (الضرورية للحاكم) ووضعها كرسالة الحكم، وهي فكرة مراوغة جداً كأن تجعل مثلاً مهمة الإنسان في الحياة هي الطعام، والطعام هنا لازم لوجود الإنسان ولكن مهمة الإنسان في الحياة ليست الطعام بل هي عبادة الله عز وجل .
وفي بلاد المسلمين بعد تقطيعها إلى قطع صغيرة لتناسب دولة “إسرائيل” التي كان من المستحيل بناءها في وجود الخلافة العثمانية, كان يستحيل أيضاً ان يترك الاحتلال الذي سعى أولاً لزرع طريقة التفكير العلمانية هذه عبر الاحتلال ثم حركة التغريب ثم الاحتلال البريطاني ثم سعى لتقسيم الدولة الكبيرة إلى قطع صغيرة بعد ان فرخ هذا الفكر العلماني الإلحادي داخل بلاد المسلمين, كان يستحيل حتى أن يترك الاحتلال هذه الدويلات الصغيرة لتصبح دويلات ناجحة تسير مؤسساتها (العلمانية) كما تسير مؤسسات اي دولة في أوروبا
وهذا لأن هذه الدويلات لها حدود مع “اسرائيل”
وحين تقرأ مذكرات مايلز كوبلاند, ستقرأ حديثه عن استقدام أغبى الضباط الألمان لتدريب جيش عبد الناصر, حتى لا يستطيع الاهتداء إلى طريقه من القاهرة إلى الاسماعيلية (كما قال حرفياً)
أي أن الاحتلال زرع فيروس الدولة والمؤسسات في العالم الإسلامي ثم قام بتقسيمه, ولكنه احتاط فجعل الفيروس نفسه غير فعال حتى لا يهدد “اسرائيل”
وحكام هذه الدويلات يدركون هذا ويتعاملون مع ويكتفون بأن يرفعوا مستوى معيشة أسرهم (فيعيشون حياة الملوك) هم والحاشية المحيطة بهم
و بالتدريج تعلم الحكام العملاء في بلاد المسلمين المقسمة أن يقدموا (إنجازاتهم الوهمية) في شكل أرقام ومعدلات تنمية وفي شكل (علاوة عيد العمال) مثلاً
ولهذا فالإعلام سلاح لا غنى عنه في دويلات سايكس بيكو
علق للناس جزرة ومنيهم وقدم لهم وعوداً وهمية وحدثهم عن الخطة الخمسية للتنمية وقبل ان تنتهي بقليل وحين ينسى الناس, حدثهم عن خطة خمسية جديدة ثم خطة (الالف) يوم
كل هذا والمعارضة التي تدور في فلك فكرة الدولة والتي لا تستطيع الخروج منها, تتساءل لماذا تفشل الدولة وتحدث جمهورها عن الاستبداد والفشل وغير ذلك من سفاسف الأمور غير مدركين أنهم يدورون في (ماتريكس) حقيقية صُنعت لهم منذ قرنين وأنهم ما يتبعون إلا ما صنعه لهم الاحتلال
هذا المنهج في التفكير (منهج الدولة والإنجازات المادية) هو الذي دفع جمهور العسكر للتغني بشفيق لأنه (عمل شغل في المطار) وكانت هذه الجملة البسيطة هي عنوان حملته الانتخابية
وهذه الجملة على بساطتها, تكشف تجذر فكرة الدولة العلمانية داخل الكثيرين.
اعلم ان هذا الكلام لم يسمعه البعض من قبل وأنه يتصادم مع قناعات الكثيرين لكن من الضروري أن يعرفه الناس
وللحديث بقية ان شاء الله