الفض يتم بإذن من النيابة العامة

يتأكد شحاتة جيداً من تعمير بندقيته والمدرعة تقترب من رابعة
الحر خانق في ذلك النهار من أغسطس وقناع الغاز المستورد على وجهه يزيده اختناقاً, الضابط في السيارة يأمرهم بالاستعداد للنزول, يترجل شحاتة ورفاقه من المدرعة و يسرع إلى حيث يأمرهم الضابط بالوقوف خلف جرافة عسكرية لم يرها من قبل.
يتعالى صوت معدني كئيب من مكبرات الصوت عن الاعتصام الذي يتم فضه بأوامر من النيابة, ثم يبدأ رفاقه باطلاق قذائف الدخان.
على الناحية الأخرى تتعالى سحب الدخان مع أصوات دقات على أعمدة الإنارة. يأمرهم الضابط باطلاق النار ويصوب بندقيته, شحاتة ينفعل, يصوب سلاحه نحو مجموعة من الرجال يرتدون خوذات ويستترون خلف صناديق من البلاستيك.

يرى رجلاً يتهاوى والدماء تتدفق من جسده, لقد حصل على أول فريسة.

دوي الرصاص وسحب الدخان المتصاعد وأصوات الصرخات تتعالى.

يشعر شحاتة أنه في حرب حقيقية, فيطلق المزيد من الرصاصات على أهداف جديدة, يلقي نظرات خاطفة على الضابط, فيجده يصوب بندقيته في حالة من النشوة, اسقط هدفاً جديداً, ينهمك في التصويب محاولاً اصابة رجل اسرع لحمل ضحيته السابقة, بعض الرصاصات تخطيء هدفها والبعض يصيب هدفه بدقة ولكنه يبلي بلاءً حسناً ولا شك أنهم سيكافئوه.
الجرافات تتقدم وتجرف أمامها بعض الجثث وتتعالى الصرخات.

عدة ساعات مرت وبدأ العدو ينهار, أصوات الصرخات تعلو أكثر, والضباط يصوبون أسلحتهم في بطولة نادرة إلى أجساد الجرحى (هكذا رآهم شحاتة), طائرات الهليكوبتر تقترب من المكان, والمدرعات تتقدم باتجاه العدو والجرافات تقترب من المسجد.
هناك طفل يرفع آذان الظهر, يسمع صوته واضحاً ولكنه لا يراه ورجال تسيل الدماء على ملابسهم يسرعون لنجدة من سقطوا, لا يتبين ملامحهم جيداً فالكمامات تغطي وجوههم ولكن الأوامر واضحة, اطلقوا النار على من يتحرك ففض الاعتصام يتم بإذن من النيابة العامة.  
يستمر شحاتة في اطلاق النار, لا يدري كم مر من الوقت ولكن الشمس غربت, هناك أسرى من العدو ملقون على وجوههم, ينظر دون اكتراث إلى احد الضباط يجر فتاة منتقبة, ينظر في بلادة إلى ميدان رابعة وقد تحول إلى خرابة, جثث ملقاة على الأرض, متعلقات شخصية ومصاحف, خيم مهدمة, يتحسس جيبه حيث يرقد الهاتف المحمول الذي حصل عليه من احدى الجثث, يشرد قليلاً ثم يفيق على صوت الضابط يناديه, يسرع الخطى إلى الضابط الذي يأمره هو ورفاقه بجلب البنزين.

يصب البنزين هو ورفاقه أمام المسجد وحوله, النيران تشتعل في الميدان كله.
صوت قرقعة النيران ورائحة الشواء تمتزجان مع صرخات من تبقى على قيد الحياة بعد المعركة, يأتي بعضهم لالتقاط الصور, يرى شخصاً تبدو ملامحه مألوفة, ويسمع الضباط يقولون أنه ابن عبد الناصر.
يزداد شحاتة انبهاراً, إذن فما فعلوه يستحق أن يأتي ابن عبد الناصر شخصياً ليشاهده.

يمصمص شفتيه ثم يترحم على الزعيم الذي لولاه لما تعلم, وشحاتة لم يتعلم ولكنه يسمعهم يقولون هذا في التليفزيون.
يرى ضباط الجيش والشرطة يهنئون بعضهم البعض ويلتقطون الصور أمام المسجد الذي تتصاعد منه ألسنة اللهب وكتل من الدخان الأسود, فيزداد فخراً.
يعود للمدرعة مع رفاقه ليصحبوا الجرافات التي ستدفن الجثث, ياله من يوم شاق.
تحت أضواء السيارات يتم القاء الجثث في حفر اعدت على عجل, ينتهون من مهمتهم قرب الفجر.
ينام شحاتة أخيراً متخيلاً حياته الباسمة, بعد شهر حين تنتهي فترة تجنيده.
بعد أقل من سنتين من المعركة, التليفزيون يقطع برامجه ليذيع خبر مقتل هشام بركات.
يتذكر ذلك الصوت المعدني وتفاصيل ذلك اليوم, يتذكر رائحة الشواء وألسنة اللهب والمسجد المحترق الواقف كالشبح يتوعدهم, هكذا شعر وقتها.
ينتهي من عمله في ذلك المقهى الصغير في احد مراكز المحافظة, يسير شارداً بينما يتذكر الرصاصات التي اطلقها يومها, يتذكر صوت الطفل الذي كان يرفع آذان الظهر وسط أمطار الرصاص وسحب الدخان وصرخات الجرحى.
لوهلة يقشعر بدنه
صوت القرآن يصل إلى مسامعه من متجر ما
” إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ “
يشعر أن الآية موجهة له ولكنه لا يفهم على وجه الدقة ويحاول أن الا يسمع.
يعود ليتذكر, الم يكن فض الاعتصام بإذن من النيابة العامة ؟
يعود ليتذكر النائب العام الذي هلك, فينقبض قلبه.
يتذكر ذلك الرجل الذي حاول نجدة احد ضحاياه, فاسقطه برصاصة من بندقيته
والفتاة المنتقبة التي كان الضابط يجرها, ورائحة الشواء تلك التي لا تترك مخيلته
يتسائل لماذا شعر أن المسجد بعد حرقه كان ينظر إليه متوعداً ؟
لا ينتبه لبوق السيارة المسرعة.
في لحظة واحدة ينتقل إلى حيث يعرف إجابة تساؤلاته
(موقف تخيلي لا يرقى إلى بشاعة المجزرة)
رحم الله شهداء رابعة وأخواتها