بدايةً أسجل اختلافي مع إيمان البحر درويش ومع بعض ما يطرحه، بل وحتى مع سبب شهرته الأصلي، ولست الآن بصدد الحديث عن الحكم الشرعي للفن والغناء أو ما يظنونه ويسمونه فنا إسلاميا أو منضبطاً! فالمسألة قتلت بحثا ممن هم أفضل مني علما شرعيا، والأمر محسوم باتفاق الأئمة الأربعة. ولكن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها، ولا يعدم مسلم من خير يمكن الانتفاع به، ولا يحقرن أحدكم من المعروف شيئا.
قد أكون قسوت عليك في مقالي السابق وأغلظت لك القول أو قلت ما يُفهم منه ما ليس فيك، فاعترف بذلك وأعتذر، ولكني والله أحب لك الخير كما أحبه لكل مسلم، وأحب تجلية الحق أكثر مما أحب الخير لك.
وفي مقالي هذا ليس لي غرض سوى النصح الأمين، فاسمع مني مهما كنت تختلف معي أو مهما كنت تكرهني وتراني شريرة، فلعلك تنتفع بكلامي كما انتفع أبو هريرة بنصيحة الشيطان عن فضل سورة الكرسي. فما دفعني لكلامي هذا إلا انني لمست فيك إخلاص وحب لله ورسوله صلي الله عليه وسلم، خاصة بعد أن استمعت لعدة لقاءات لك منذ فترة طويلة.
إيمان البحر درويش شخصية ثرية بالعديد من المعاني المؤثرة إيجابا أو سلبا، من يستمع لحديثه يجده مثقفا متنوع الاطلاع يتمتع بخفة ظل ولباقة وكاريزما وحضور يفوق كثير من الإعلاميين المشاهير، وله رأي مستقل وعقلية لا تسير مع الترند مهما هوجم أو اتهم بالغرور، فلديه شجاعة السباحة ضد التيار مهما كلفه ذلك، ولم يتواكل علي “نجاحه” من خلال ميراث سيد درويش رغم الدفعة القوية التي استفادها منه في بداية حياته العملية، بل استطاع أن يستمر “نجاحه” بمستوى يفوق ما بدأ به ولكن ببناء لونه وشخصيته الفنية الخاصة به والمميزة له بين أبناء جيله الذين كان يقلد بعضهم بعضا، وامتد “نجاحه” في الغناء إلى السنيما والتليفزيون والمسرح، ثم منّ الله عليه وترك كل ذلك في عنفوان نجاحه ابتغاء وجه الله، والله حسيبه، وكانت له تصريحات ضد عمل المرأة واستغلالها في السنيما وكلام عن امتناعه عن تقديم أي أفلام في المستقبل وغير ذلك مما يغضب العلمانيين.
وبعد سنوات من الخمول عاد إيمان البحر إلى الفن مرة أخرى، مبررا عودته بأنه كان في فترة تفرغ للاطلاع والقراءة في دينه، وأحسب أنه تأثر ببعض فتاوى مهتوكي العقول المنتسبين زورا وبهتانا لما يسمى بالتيار الإسلامي (إسلام معهد راند) عن الفن ودوره في حياة الناس والتوسع في الأقوال الفقهية الضعيفة والمهجورة تحت ضغط الواقع على تلك التيارات المنهزمة نفسيا.
المهم أنه عاد بترقب من العلمانيين الذين كانوا يتعمدون محاولة إحراجه بأسئلة مثل من يفضل من المطربات؟ وهل صوت المرأة عورة؟
لم يسلم إيمان البحر من ألسنتهم وأقلامهم، بل كتبت عنه قلعة الـ كـ فـ ر روزاليوسف يوما مقالا بعنوان “إيمان البحر درويش بقي درويش”
لم يبال إيمان البحر بكلامهم وعاد بما يؤمن به ويظنه “فنا إسلاميا” ورسالة، وقدم مسلسل الإمام الشافعي على قناة الصفوة عام 2007، وأكمل متماشيا مع كونه “صاحب رسالة” – حتي من قبل مرحلة تركه للفن وعودته – واستمر في بث ما تميز به من معان تلمس حياة الناس و آلامهم ببساطة وإحساس عال، بل وكانت له أغنية عن خالد سعيد رحمه الله، ولم تكن أغانيه الوطنية تقليدية هلامية بقدر ما كانت تلمس إحساس الناس ومشاكلهم، حتي في أغانيه العاطفية كانت له سمة مميزة تشعرك برقته وتلقائيته. (منَ الله عليّ بترك سماع الغناء منذ سنوات).
إيمان البحر في العقل الجمعي المصري والعربي يمثل عددا من المعاني التي قلما اجتمعت في شخص واحد، فهو حفيد الشيوعي سيد درويش ويرى الناس في إيمان البحر ما يمثله جده مما يسمونه بالهوية المصرية وخصائص الشخصية المصرية والوطنية والثورية والأصالة والعراقة، إلخ.. إلخ، ولديه سمات دينية وردود قديمة وجديدة علي العلمانيين.
مشكلتي مع إيمان البحر أنه يعاني مما تجمعه الهوية المصرية من معان متعارضة تتردد بين الإسلام والجاهلية والإسلام الملبس بالجاهلية والجاهلية الملبسة بالإسلام. فالمصري على المستوي الشعبي، يقدس إخناتون ويسميه أول الموحدين ويفخر بأن التوحيد اختراع أجداده الفراعنة، بينما يزعم أنه أشد الشعوب حبا للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الكرام! يقدس الجيش المصرائيلي ويسميه خير أجناد الأرض (وهو حديث باطل مدسوس على النبي)، بينما يقيم فرحا إذا ما أخذ إعفاءاً أو تأجيلا من التجنيد! يحب الشعراوي ويحب عبد الناصر! ويحرص على متابعة الراقصة سنية نفخو، بينما يسعد باعتزالها وارتدائها الحجاب! يعشق أم كلثوم ويشعر بالفخر حين يسمع الشيخ كشك يصفها بالعجوز الشمطاء التي تدعو إلى الزنا. ذلك المسخ البغيض المسمى بالهوية المصرية أو التدين المصري المعتدل جعل العقل المصري يحمل مخزونا جاهليا يفوق جاهلية العقول في شتى حظائر سايكس بيكو.
أما تجليات الهوية المصرية على مستوى طبقة المثقفين التي ينتمي إليها إيمان البحر، فأخطر بكثير، لا أعني وجود كل ما سأذكره في إيمان البحر تحديداً، ولكنه ينتمي لجيل تأثر ببيئة اشتملت على كل الآتي ذكره وانعكست بشكل أو بآخر على مواقفه من الإسلام الصافي.
إيمان البحر درويش ليس صغيرا فهو في السادسة والستين من عمره وقد عايش الكثير من الصراعات الفكرية، ويظهر من حديثه أنه لم يكن بمعزل عن البيئة الثقافية والفكرية لجيله، مشكلتي مع هذا الجيل أنه مر بمراحل تطور فيها الفكر الإسلامي الحداثي بمراحل بدأت من التنظير لإسلام يساري يرى محمدا صلى الله عليه وسلم إمام الاشتراكيين الذي بعثه الله لينقذ الفقراء من بطش الأغنياء، وصولا إلى إسلام ليبرالي يرى النبي صلى الله عليه وسلم واضع أول دستور يحترم الحقوق والحريات ويحترم الآخر، وما بين ذلك من الإسلام الفرعوني الذي يصف مصر بأنها أم الدنيا ويصف جيشها بخير أجناد الأرض، وكأن الله خلق الخلق وبعث الرسل وأنزل الكتب من أجل مصر وأوطان سايكس بيكو التي يعيش الوطنيون ويموتون من أجلها، إلى غير ذلك من الخرافات التي يحاول المنهزمين نفسيا زجها ولصقها بالإسلام ليغني كل على ليلاه.
ولذلك أقول لإيمان البحر درويش، أني قد مررت بنفس الطريق أو بعضه، وألمس فيك بوادر تطور قد لمستها في نفسي يوما ما، وقد كنت يوما أعمل في التلفزيون المصري واطلعت علي مطبخه وعلمت كيف يطبخون الأفكار المسمومة ويطعمونها الناس، بل كنت أقدم برنامج طلائع النصر عن عظمة الجيش المـ صـ رائيلي وروعته! وقد كنت أظن يوما أن المسلم قد يكون إسلاميا وليبراليا ووطنيا في آن واحد! ولكنني حين تحررت من أغلال ما وجدنا عليه آباءنا فهمت أنه ليس في الإسلام إلا الإسلام
قد كنت يوما معارضة للنظام المصري، وكانت مشكلتي مع النظام أنه نظام انقلابي انقلب على اختيار الشعب وما يسمونه بالديمقراطية والإرادة الشعبية والدستور!
كنت أظن السيسي مفسداً جاء ليدمر الدولة المصرية ويفسد جيشها ومؤسساتها.
ثم منَّ الله عليَّ وفهمت معنى شمولية الإسلام، وأن عدوي الأول هو دويلات سايكس بيكو التي أسسها الاحتلال على أنقاض الخلافة، وأسس بنيتها السياسية والإدارية ودساتيرها، ورموزها الفكرية والسياسية وانتصاراتها الوهمية وعين عليها هؤلاء الرعاع خفراءا وأسماهم ملوكا ورؤساء وأمدهم بجيوش تعينهم على الاحتلال واستعباد المسلمين وإفساد عقيدتهم ونهب ثرواتهم لحساب الرجل الأبيض، مع صناعة تلك الهوية المصرية الممسوخة وحشوها بخرافات الوطن والحدود من أجل استمراء العبودية لحدود سايكس بيكو وتأمين عدم عودة الخلافة وشرذمة العالم الإسلامي، وصد المسلمين عن هويتهم الحقيقية بهوية بديلة تحمل كل مكونات الإحلال لتبديل الهوية الإسلامية.
إيمان البحر درويش إن كنت حقا تريد كلمة حق عند سلطان جائر فلا تدفع جهادك ثمنا لمعارضة هابطة تقر بثوابت الرجل الأبيض وتثبت أركانه من حيث تظن أنك تعارضه، عليك أولا أن تكفر بكل هذا الواقع الافتراضي وإدراك أن الدولة المصرية ومؤسساتها هي عدو الله ورسوله وعدونا الأول، وأن حصر خصومتك مع السيسي ما هو إلا تقوية لدولة محمد علي التي أسستها فرنسا وورثتها بريطانيا ثم أمريكا، بحيث يتم تغيير غطاء الفساد المسمى نظام مبارك أو السيسي كل فترة لإطالة عمر ذلك الكيان وكيل الاحتلال وبداية مرحلة جديدة من حكم الرجل الأبيض بوجه جديد.
قد رزقك الله قبولا ومهارات فاجعلها في سبيل الله، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: “والله أعلم من يكلم في سبيله”، وبغض النظر عن خلافي معك ومع مسارك، فقد كنت دائما مستقلا ومتميزا فلا تزيط مع الزيطة، اجعل فكرك الثوري كذلك خارج حفل سايكس بيكو وسقفه وثوابته، وهذا ما قصدته في مقالي السابق من قولي بأن العسكر يستخدمونك ويفيدون منك، ولم أعني لا سمح الله اتهامك بالعمالة المباشرة أو الطعن في نيتك. هي موتة واحدة، وقد عاينت الموت من قريب ومنَّ الله عليك بالشفاء، فاجعلها لله الوارث الباقي ولا تجعلها لمصر الفانية، فقد سخر الله الأرض وما عليها لعباده الصالحين إعانة منه علي عبادته وإقامة شرعه، ولم يسخرهم ليموتوا من أجلها، بل لأجل إقامة شرعه عليها
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾
أوصيك بقراءة بعض مقالاتي في الروابط المرفقة ، فتجد فيها توسعا في المواضيع التي ذكرتها في رسالتي لك، وأرحب بأي نقد أو نصيحة منك وعلى استعداد لنشرها على صفحتي وموقعي ومناقشتها. هداني الله وإياك لما يحب ويرضى
البانوبتيكون … الوهم الذي يحتل عقل
براندات سايكس بيكو
الأزهر من لاهوت التحرير إلي الأنسنة والتنصير