فوجئت بالأمس بردود البعض على مقالي حوار مع مبرراتي كيوت، خصوصًا فيما يخص أردوغان على اساس انه أعاد الهوية الاسلامية لتركيا وأنه يحارب العالم، وحجتهم في ذلك أنه يقوم ببناء المساجد وترك الحرية للنساء لارتداء الحجاب وعمل مسابقات لتحفيظ القرآن للاطفال وترك الحرية للمآذن وقام برصف الطرق وبناء الكباري.
وبعيداً عن كلام وتعليقات البعض وبعيدا عن حالة التجهيل المتعمد التي يتعرض لها الناس وهو تجهيل تمارسه مؤسسات اعلامية متكاملة من قنوات ومحطات اذاعية ووزارات تعليم لدعم منظومة سايكس بيكو لأنه يخدم بقاءها بتقديم صيغة سطحية من الاسلام لا تتصادم مع الدولة، فهو اسلام اقرب الى العلمانية منه الى الاسلام الذي أنزله الله على رسوله الذي أسس اقوى دولة حكمت العالم وهي الدولة الاسلامية
بعيداً عن كل هذا فقد هالني تعريف البعض للهوية
فبعض الردود التي هالتني هي أن أردوغان استعاد الهوية الاسلامية المفقودة منذ عهد مندريس ( وهذا له مقال آخر ان شاء الله)
طبعا هؤلاء يرددون جُمل وعبارات يحفظونها عن ظهر قلب نتيجة متابعتهم لبعض النخب الـ جـ اهلة او من قادة بعض الحركات الاسلامية وهذه كارثة فكرية في حد ذاتها
هذه الحالة من الضياع الفكري وانعدام الوزن وعدم القدرة على تحديد معايير الهوية الإسلامية (إلا عند من رحم ربي) تكشف في الحقيقة عن أزمة الهوية لدى الحركات الاسلامية
نفسها
وانتشار هذا التعريف عند قواعد الحركات الاسلامية او حتى المتعاطفين معها من خارجها (الا من رحم ربي ) يعني أن الازمة في الحقيقة أزمة قيادة وان هذا التخبط أساسه في قيادات الحركات الاسلامية التي يقتدي بها البعض ويرددون كلامهم بلا تفكير
الكارثة ليست فقط في عدم القدرة على تحديد معايير الهوية الإسلامية
بل الكارثة الأكبر هي عدم القدرة على تطبيق أمر رباني واضح بالتبين والقياس كما في قصة مندريس قديما واردوغان حديثًا
ألم يفكر أحدهم كيف استطاع رجل مثل اردوغان الوصول إلى الحكم والاستمرار كل هذه المدة في بلد سيطر عليها عملاء بريطانيا وامريكا وحورب فيها الدين حرباً شرسة، والدليل على ذلك التخلص السريع من نجم الدين اربكان والذي كان يعد اخطر من تحدى قواعد العلمانية التي اسسها الهالك كمال اتاتورك التي حكمت ومازالت تحكم تركيا
ألم يفكر أحدهم في استحالة أن يصل أردوغان الى سدة الحكم الا برضاء غربي كامل ؟
الكارثة الأكبر ألا تدور هذه الأسئلة في رؤوس من يسمونهم نخب والذين ينقلون ما تنقله اليهم المخابرات وينقلونه بالتالي للناس على أنه حقائق مسلم بها وهم في حالة من الافتتان والنشوة الـ جـ اهلة تشبه ما يكون عليه مشاهدو أفلام الترسو الذين يشاهدون افلام عادل امام او محمــــد رمضان
الأكثر بشاعة من هذا هو التعريف المعوج الجاهل للهوية
لقد هالني أن يكتب البعض عن بناء اردوغان للمساجد وتحويل كنيسة آيا صوفيا الى مسجد وترك الحرية للنساء لارتداء الحجاب على أنها عودة للهوية الاسلامية
وما لا يفهمه البعض أن العلمانية لتستمر في تركيا كان عليها أن تجد صيغة توافقية تتعامل بها مع عقيدة الناس وهي الاسلام, فالفترة الاتاتوركية كانت فترة استئصال للاسلام حتمتها ظروف عملية هدم دولة الخلافة العثمانية (من وجهة نظر الاحتلال)
وهي فترة صدام لا يمكن أن تستمر لأن الصدام ينتج مظلومية والمظلومية تنتج عدم استقرار ورغبة في الانتقام ولذلك فغالبية المراحل الاستئصالية في بلاد المسلمين بعد مرحلة اسقاط الخلافة العثمانية, تلتها مراحل تخفيف وهو نوع من الحنكة النفسية للاحتلال في التعامل مع المجتمعات الإسلامية, فمرحلة عبد الناصر الاستئصالية في مصر اعقبتها مرحلة السادات (والذي جرى اغتياله في نهاية الأمر لينتهي شهر العسل بين الحركات الاسلامية ونظام العسكر)
ومرحلة اتاتورك وعصمت اينونو في تركيا, تلتها مرحلة عدنان مندريس وكل هذا تحت سمع وبصر الغرب وبارادته وبموافقة الجيش في البلدين والقول بأن السادات مثلاً وصل للحكم دون رغبة أمريكية هو نوع من الحماقة
كما ان مرحلة مندريس كانت ضمانة لاستمرار العلمانية تماما مثل مرحلة اردوغان
ففي مرحلة مندريس كانت مرحلة لتهدئة المسلمين الذين صدمتهم قرارات المجرم اتاتورك فكان لابد من مرحلة تمتص ردود افعال البعض وتهادن الناس لتمتص أي رد فعل انتقامي متصور في بلد كانت عاصمة الخلافة العثمانية ثم فجأة وجدت نفسها مجرد تابع للغرب على يد عملاء من أمثال اتاتورك واينونو
كما ان مرحلة اردوغان كان لابد منها خاصة بعد مرحلة اربكان المتشدد الذي نشأ على الطريقة النقشبندية والذي أسس أول تنظيم سياسي على الهوية الاسلامية والذي يعتبر اول من حقق انتصارات حقيقية للإسلام في تركيا منذ سقوط الخلافة فكان لابد التخلص منه والاتيان بشخص يحمل نفس الفكر صوريا امام الشعب التركي المتعطش للاسلام ولكن في نفس الوقت لا يتصادم مع العلمانية ويقدم للعالم الاسلامي نموذج للدولة الإسلامية العلمانية كما رسمها معهد راند
وهي تقريبا نفس المرحلة التي خاضتها مصر في عهد السادات الرئيس المؤمن, مرحلة السماح بالشعائر الاسلامية والحجاب وقليل من الحرية للحركات الاسلامية آنذاك بشرط ان تعمل هذه الحركات تحت رعاية الدولة العلمانية وقوانينها والا تتجاوزها وهذه هي الفتنة الكبيرة التي وقعت فيها كل الحركات الاسلامية في مصر
وهذه المكاسب هي في الحقيقة فتات يلقونه للحركات الاسلامية والتي تعمل كصمام أمان لتأمين نظم الحكم العسكرية
والهوية الاسلامية بالتالي ليست الحجاب ولا اللحية فقط بل هي أمر أكبر من ذلك بكثير تلخصه الآية الكريمة (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
وبالتالي فكل من يقول ان عدنان مندريس اعاد الهوية الاسلامية لتركيا أو أن اردوغان الذي ذهب الى دولة الاحتلال ووضع الزهور على قبر مؤسسها تيودور هرتزل اعاد الهوية الاسلامية رغما عن الغرب فهو احمق قولا واحدا
الكارثة الاكبر من كلام العوام هو ان ترى من الاسلاميين من يفكر بهذه السذاجة ويعتقد ان بناء المساجد وحمل المسابح و افتتاح المدارس الدينية هي عودة للهوية
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}