آيات عرابي تكتب |محمد الفقيه

 

التليفزيون الفلاني يقطع بث كليب المغنية الفلانية ويذيع مقطع فيديو تبدو فيه قرية صوريف وقد أظلمت بينما تسمع فيه بوضوح زخات الرصاص بصوتها الغليظ تتطاير هنا وهناك. 

حول التليفزيون كانت ردود الأفعال باردة في البداية، زفرة ملل أطلقها الشاب الجامعي الجالس على المقعد الوثير يتابع الكليب الجديد وأفاقت الأم من غفوتها وانتبه الأب. 

صوت المذيع الجاف يشوبه الانفعال وهو يحاول الاتصال بمراسل القناة في فلسطين لنقل صورة حية للحدث عبر شهادات شهود العيان ثم يطلق المذيع زفرة حارة قائلا: “نعتذر عن عدم التمكن من الوصول لمراسلنا وسنعاود الاتصال به لنطلعكم على مستجدات الموقف”. 

صوته الميكانيكي يتحول فجأة إلى خيوط من المطاط الساخن من شدة انفعاله وهو يتابع المعركة التي لا يرى منها شيئاً ويعلق. 

يتحول الطالب الجامعي إلى قوس مشدود من شدة التوتر وهو يتابع صوت الرصاص على الشاشة.
 
الأب بدوره يتحول إلى جلمود من الصخر وقد اندمج تماما مع المشهد يتابع إمدادات العدو التي تتقاطر على منزل محمد الفقيه المحاصر. 

عربات عسكرية ومدرعات وجنود العدو بأعداد كبيرة في جو مظلم. 

صوت المراسل يصب كلمات في حرارة المياه المغلية على أسماع المشاهدين. 

جيش العدو يفشل في اقتحام منزل محمد الفقيه ويطلب المزيد من التعزيزات، المنطقة كلها غارقة في الظلام بعد أن قطع العدو التيار الكهربائي. 

على قناة أخرى تجد المشهد نفسه. 

مذيع أشعث تم استدعاؤه على عجل من منزله القريب من مقر القناة، آثار النوم العالقة بصوته في بداية البث العاجل قد تلاشت تماماً وحل محلها التوتر. 

على المقهى في القاهرة يتسمر الساهرون أمام المعركة التي تبثها إحدى القنوات المصرية. 

تتصاعد الهتافات من رواد المقهى عندما يسمعون المراسل يعلن فشل قوات كبيرة من جيش العدو الصهيوني في اقتحام منزل يقطنه مقاتل فلسطيني واحد.

مارة قلائل في شوارع القاهرة الساهرة يتدفقون على حدود المقهى الخارجية، يعقدون أيديهم أمام صدورهم ويراقبون المشهد على الشاشة في انتباه وإعجاب. 

صحف اليوم التالي تحمل نبأ استشهاد محمد الفقيه. 

الصفحة الأولى من صحيفة “المنظار” احتلتها صورة محمد الفقيه وفوقها مانشيت ملأ نصف الصفحة “واستشهد أسد الخليل” وتحته عبارة بخط أصغر، مقاتل واحد يقهر جيش العدو 7 ساعات قبل استشهاده. 

قصفوا المنزل بالصواريخ بعد أن عجزوا عن مواجهته. 

كل الصحف تتحدث عن المعركة، رواد المقاهي، الأسر في المنازل، القنوات، الصحف، طلبة الجامعات.
 
الجميع يتحدثون. 

طلبة الجامعات المصرية يصلون صلاة الغائب على روح الشهيد محمد الفقيه. 

شاشات القنوات تم تسويد زواياها حداداً على الشهيد، والقنوات تبث آيات القرآن. 

هذه الصورة التي تراها خيالية الآن كان من المفترض أن تكون الصورة الحقيقية. 

مرت معركة صوريف دونما ضجيج في الإعلام العربي، اللهم إلا من تقرير هنا وخبر هناك وكأن هناك من يعيق وصول تلك الصور إلى ملايين المسلمين في البلاد العربية. 

في مصر تبدو المصلحة من التعتيم على معركة صوريف شديدة الوضوح، فالعسكر المرتمون في أحضان الكيان الصهيوني لا يرغبون في تشويش صورة دويلتهم التي تصاغرت حتى أصبحت إحدى محافظات الكيان الصهيوني. كما يسوؤهم كثيرا أن يعقد الشعب مقارنة بين مقاتل كان يعيش مع زوجته في شقة بالإيجار وكان جل أحلامه أن ينتقلا معا إلى منزل يمتلكونه وبين ضباطهم المنتفخين المسؤولين عن إدارة قاعات الأفراح. 

ليس من مصلحتهم أن يعقد الشعب مقارنة بين شاب حافظ للقرآن استطاع ببندقيته أن يوقف قوات كبيرة للعدو الصهيوني سبع ساعات وبين جيوشهم التي سحقتها قوات العدو في ست ساعات ومرت فيها كما يمر السكين في الزبد. 

معركة صوريف التي خاضها أسد الخليل وحده كانت رسالة أمل ربانية بعد الرسالة الأولى منذ أيام والتي جاءت من تركيا التي فشل فيها الانقلاب العسكري. 

وإذا كان فشل انقلاب تركيا قد مثل بداية خروج منطقتنا من تبعية النظام العالمي، فإن معركة صوريف صورة من المستقبل المشرق الذي ينتظر أمتنا بعد كل ذلك المخاض الدموي الذي تمر به في مصر وسوريا واليمن والعراق وليبيا وفلسطين وبورما وأفريقيا الوسطى.